شكل قطاع الاتصالات رافعة أساسية لما تعرفه المملكة المغربية من تقدم ودينامية في مختلف المجالات. فمن قطاع الأبناك إلى قطاع العقار، مرورا بقطاعات التأمين والمناجم، كان تطور الاتصالات، ومواكبة بلادنا لكل التحولات التي يعرفها هذا القطاع، عاملا حاسما في قدرة المغرب على تطوير نسيجه الاقتصادي والتوسع في الأسواق الافريقية. وفي هذا المجال، لا بد من التذكير بالقرار الاستراتيجي الذي اتخذه المغرب في العقد الأخير من القرن الماضي، حيث كانت بلادنا من بين الدول التي قامت بتحرير قطاع الاتصالات في وقت كانت فيه الكثير من الدول مترددة، وتعتبره قطاعا استراتيجيا يجب أن يبقى خاضعا لاحتكار الدولة.
هذا التحرير المبكر لقطاع الاتصالات، كان وراء ما وصلت إليه بلادنا من دينامية اقتصادية وتكنولوجية، والدول التي تأخرت في ذلك لم تستطع تحقيق ما أنجزه المغرب.
إذا كانت المملكة المغربية، عبر مراحل التاريخ، مسايِرَة لتطور قطاع حيوي من قبيل قطاع الاتصالات منذ إنشاء أول شبكة للهاتف الثابت بمدينة طنجة سنة 1883، حتى الجيل الرابع للهاتف النقال في وقتنا الحاضر، فإن تأخر اعتماد شبكة الجيل الخامس قد يُفقد المغرب كل ما حققه لحد الآن من ريادة في هذا القطاع، وربما يكون سببا في ضياع فرصة ذهبية مع التاريخ.
ولعل أبرز مثال في هذا المجال هو ما قامت به جمهورية الصين الشعبية من خلال شركة هيواوي. فالصين لم تواكب تطور تكنولوجيا الاتصالات منذ الجيل الأول حتى الجيل الثالث. لكنها دخلت هذه السوق مباشرة في مرحلة الجيل الرابع واستثمرت في الجيل الخامس، وهي الآن الرائد الأول عالميا في هذه التكنولوجيا، وتفوقت على شركات غربية عاشت كل أطوار تكنولوجيا الاتصالات منذ أكثر من قرن من الزمن.
إن تأخر الاستثمار في الجيل الخامس G5 سيؤثر سلبا على الدينامية التنموية التي يعرفها المغرب، وسيساهم في فرملة وتيرة تطور هذه الدينامية إن لم نقل تعميق الهوة مع ما يحدث في العالم بخصوص الجيل الخامس. ولعل صراع الولايات المتحدة مع الصين حول هذه التكنولوجيا يعكس قيمتها في المستقبل القريب.
يبدو من خلال تصريحات المسؤولين الوزراء، أن الحكومة لا تتوفر على رؤية استراتيجية لدور الجيل الخامس في الزيادة من وتيرة دينامية التنمية في بلادنا. كما أنها لا تملك مشروعا لإدماج هذه التقنية الجديدة في النسيج الاقتصادي لتطوير الناتج الخام والزيادة في وثيرة تطور الاقتصاد الوطني. وعوض القيام بالاستثمار في هذه التكنولوجية الجديدة لتحقيق طفرة تنموية غير مسبوقة في تاريخ المغرب، تتجه الحكومة إلى توفير خدمات الجيل الخامس في الملاعب التي ستشهد مباريات كأس العالم 2030 ومناطق المشجعين وبعض الفنادق الكبرى. وهو ما يعني أن الحكومة تتعامل مع الجيل الخامس من منظور تفادي الحرج أمام اسبانيا والبرتغال الشريكان مع المغرب في تنظيم كأس العالم، وليس وفق استراتيجية تنموية تساهم في جعل المغرب من بين الدول التي تستفيد من خدمات الجيل الخامس في تدعيم مشاريعها التنموية.
إن الجيل الخامس للهاتف النقال ليس هو الجيل الرابع الذي طور فقط مستوى الصبيب، كما أنه ليس هو الجيل الثالث الذي جعل الهاتف مرتبطا بالأنترنيت ومزودا بألة تصوير. إن الجيل الخامس هو ثورة متعددة الأبعاد ورافعة للتنمية لكل دولة تستثمر فيها وتعرف كيف تستفيد منها. الجيل الخامس هو ثورة تكنولوجية واقتصادية بكل ما يحمله مصطلح “ثورة” من معاني واستراتيجيات. الجيل الخامس يأتي بثورة تكنولوجية جديدة من بعدين: أنترنيت الأشياء والكل متصل. وفي تقرير لمعهد ماكنزي العالمي نقرأ أن الجيل الخامس سيساهم في ربط 50 مليارا من الأشياء في العالم وهو ما يعني ثورة “الكل متصل”. فالمنزل والسيارة ومكتب العمل والضيعات الفلاحية وتربية المواشي وغير ذلك… سيكون مُتحكم فيه من خلال شبكة الأنترنيت، وهو ما سيفتح المجال لما يُعرف حاليا بالذكاء الاصطناعي الذي يشكل فرصة سانحة لكل دولة لها طموح تنموي ورغبة في الالتحاق بالعالم المتقدم.
أما أنترنيت الأشياء فهي ثورة ستنقل الأنترنيت من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي حيث سيدخل الأنترنيت إلى الضيعات الفلاحية لمضاعفة الإنتاجية، وإلى ضيعات الأبقار لزيادة إنتاج الحليب، وإلى القطاع الطبي لتطوير مستوى العلاج، وإلى الشركات للرفع من النجاعة والمردودية… وغير ذلك من الاستعمالات التي يتيحها الجيل الخامس.
فمتى تتخلى الحكومة عن سياسة “الترقاع” مع الجيل الخامس بربطه بكأس العالم، وتوفيره فقط في مناطق تواجد مشجعي كأس العالم، وكأنه “موضة” يجب إتاحتها لجمهور خاص. على حكومة المملكة المغربية، إعداد استراتيجية مندمجة مع الاقتصاد المغربي للحفاظ على الدينامية التنموية التي تشهدها بلادنا، كما تقوم باقي الدول التي لا تسمح لاقتصادها بالتراجع، ولا تستسيغ عدم الاستفادة من ثورة جديدة اسمها “الجيل الخامس للهاتف النقال”، للحفاظ على موقعها في خريطة العالم النامي، وتقليص الهوة التكنولوجية مع العالم المتقدم.
سعيد الغماز