لا شك ان قرارالمحكمة الدستورية الصادر بتاريخ 4 غشت 2025 بشأن القانون رقم 23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية، يعتبر قرار بالغ الأهمية بحيث قضت المحكمة بعدم دستورية بعض مواده، وذلك عقب الإحالة التي تمت من قبل رئيس مجلس النواب، طبقا لمقتضيات الفصل 132 من الدستور. ومهما يكن مضمون المواد المقضي بعدم دستوريتها، فإن الأهمية الكبرى لهذا القرار لا تكمن فقط في تصحيحه لمخالفات قانونية، بل في كونه يجسد بشكل جلي الدور الدستوري الحيوي للمحكمة الدستورية في مراقبة التشريع، وصون الحقوق والحريات، وضمان سمو الدستور وتراتبية القواعد القانونية.
لقد أكد هذا القرار على الوظيفة التحكيمية التي تضطلع بها المحكمة الدستورية، ليس فقط بين المؤسسات الدستورية في إطار توزيع الاختصاصات وضبط الحدود بينها، ولكن أيضا بصفتها حكما فوق جميع الفرقاء، بما في ذلك المؤسسات المنتخبة، والأغلبية والمعارضة، والسلطة التنفيذية، وسائر الفاعلين السياسيين، حينما يتعلق الأمر بحماية المبادئ الدستورية والمقتضيات التي تصون حقوق المواطنين وحرياتهم.
وأعتقد من وجهة نظري انه من المؤسف، في مقابل هذه الخطوة المتقدمة، أن يظل قانون المسطرة الجنائية – وهو نص أشد التصاقا بالحقوق والحريات – بمنأى عن الفحص القبلي للمحكمة الدستورية، رغم ما أثير بشأنه من ملاحظات جوهرية خلال النقاش التشريعي، سواء من لدن المهنيين أو الهيئات الحقوقية أو الفقه القانوني. فالمسطرة الجنائية هي التي تحدد كيفيات تحريك الدعوى العمومية، وشروط الاعتقال، وضمانات الدفاع، ووسائل الإثبات، ومن ثم فهي تشكل العصب الحقيقي لضمان المحاكمة العادلة، التي تعتبر من الحقوق المضمونة دستوريا. وإخضاع هذه المسطرة لمراقبة المحكمة الدستورية كان سيحسم كثيرا من النقاشات المزمنة التي لا تزال تُخلف آثاراً قانونية وقضائية متضاربة.
وفي هذا السياق، لا بد من إثارة نقطة أكثر إلحاحا، وهي استمرار تعطيل صدور القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، المنصوص عليه في الفصل 133 من الدستور، والذي أضحى آخر قانون تنظيمي لم يُفعّل بعد، رغم مرور أكثر من ثلاثة عشر سنة على دخول الدستور حيز التنفيذ. فغياب هذا النص القانوني يشكل تعطيلاً مباشراً لحق دستوري أصيل كان من أبرز مستجدات دستور 2011، ألا وهو منح الأفراد، ولأول مرة، إمكانية الدفع بعدم دستورية مقتضى قانوني، إذا ما تبين لهم أثناء نظر دعوى أمام القضاء، أنه يمس بحقوقهم أو حرياتهم المضمونة دستوريا.
إن اعتماد هذا القانون التنظيمي من شأنه أن يُحدث تحولا عميقا في بنية الرقابة الدستورية، من رقابة قبلية تمارسها جهات محددة، إلى رقابة لاحقة تُمكن المواطنين أنفسهم من حماية الدستور عبر القضاء. وهو ما يعزز الثقة في المؤسسات، ويقوي حماية الحقوق، ويرفع من منسوب الوعي الدستوري لدى المتقاضين، ويرسخ الثقافة الدستورية داخل المحاكم.
إن استمرار التأخر في إصدار هذا النص، لا يبرر بأي اعتبار، بل يُفهم منه – للأسف – وجود تردد غير مبرر، قد يُفقد النص الدستوري روحه، ويُعمق أزمة الثقة في التشريع، ويُكرس نوعا من “الانتقائية الدستورية” التي تمس بمبدأ سمو الدستور نفسه. كما أن التأخر يُبقي الوضع في دائرة الفراغ التشريعي غير المبرر، ويُبطل فعالية آلية رقابية وُجدت لتُطبق، لا لتُجمّد.
إن إصدار القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، أصبح اليوم واجباً دستورياً وأخلاقياً وسياسياً، لا يحتمل مزيداً من التأجيل. فاستكمال منظومة القوانين التنظيمية يندرج في صميم الالتزام بمبادئ الدستور، ويُسهم في ترسيخ دولة القانون، وضمان الحقوق، وتحقيق الأمن القانوني والقضائي للمواطنين
رشيد امسكين
محام بهيئة المحامين لدى محاكم الإستئناف اكادير و كلميم و العيون