بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام والصناعة الثقافية
- قمة الدار البيضاء.. أكثر من مجرد استثمار
في مشهد يعكس تحوّل المغرب إلى فاعل محوري في الساحة الإفريقية، تحتضن العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء قمة استثمارية دولية تستهدف تعبئة 12 مليار فرنك إفريقي لفائدة خطة التنمية الوطنية لجمهورية إفريقيا الوسطى. هذا الحدث، وإن بدا في ظاهره اقتصادياً، يكشف في عمقه عن أبعاد استراتيجية متعددة تتجاوز حدود الاستثمارات والمشاريع إلى إعادة رسم خريطة النفوذ داخل القارة السمراء.
- قمة الدار البيضاء.. لحظة تاريخية تُجسّد الرؤية الملكية
في يوم الأحد 14 شتنبر 2025، انطلقت بالدار البيضاء أشغال المائدة المستديرة للاستثمار المخصصة لتمويل المخطط الوطني للتنمية 2024-2028 لجمهورية إفريقيا الوسطى، والتي تستمر إلى غاية 15 شتنبر، وسط حضور دولي وإفريقي وازن، يجمع بين الفاعلين الحكوميين، والمؤسسات المالية الدولية، والشركاء الاقتصاديين من القطاعين العام والخاص.
هذا الحدث الذي تنظمه المملكة المغربية يعكس، من حيث الزمن والمكان والسياق الجيو-سياسي، تجليًا فعليًا للرؤية الملكية التي أرساها جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، من أجل قارة إفريقية متضامنة، مستقرة، ومزدهرة. كما يأتي في ظرفية تتسم بتحولات عميقة في النظام العالمي، حيث أضحت الحاجة إلى شراكات جنوب-جنوب متكافئة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
وقد أشاد رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فاوستين أركونج تواديرا، خلال كلمة ألقاها في الجلسة الافتتاحية، بـ”القيادة المتبصرة والريادة النموذجية” التي تميز جلالة الملك محمد السادس، معبرًا عن عميق امتنانه للمغرب، قيادة وشعبًا، على الاستضافة الكريمة وحفاوة الاستقبال التي حظي بها الوفد الرسمي لبلاده.
وأكد تواديرا أن “المملكة المغربية، بقيادة جلالة الملك، تفضلت باحتضان هذا اللقاء الهام، والذي يعكس عمق علاقات الصداقة والتعاون بين الرباط وبانغي”، مضيفًا أن “الشعب المغربي يجسد، من خلال صموده الرائع والتزامه الراسخ، قيم السلام والاستقرار والازدهار التي تتطلع إليها شعوب القارة”.
في السياق ذاته، شدد رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى على أن بلاده، وبعد عقود من النزاعات والهشاشة السياسية والأمنية، قد دخلت مرحلة جديدة عنوانها إعادة البناء والتنمية المستدامة، مستعرضًا ملامح المخطط الوطني للتنمية الذي سيمتد إلى غاية سنة 2028، والذي يُعد خارطة طريق استراتيجية لتحسين ظروف عيش الساكنة وتثبيت السلم الاجتماعي.
وتُعد هذه القمة مناسبة لتجديد الالتزام الإفريقي المشترك بتعزيز الاستثمارات الهيكلية في القطاعات ذات الأولوية، خاصة البنية التحتية، الفلاحة، التعليم، الصحة، والطاقة، كما أنها مناسبة لإثبات أن التمويل التنموي لا يحتاج دائمًا إلى وصاية دولية، بل يمكن أن ينبع من تعاون صادق بين الدول الإفريقية نفسها، وهو ما تجسده بامتياز فلسفة المغرب في العمل الإفريقي المشترك.
- المغرب.. من “الاستثناء” إلى “النموذج” الإفريقي
المغرب، الذي لطالما تم تقديمه كنموذج للاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في شمال إفريقيا، بدأ يتحول تدريجيًا إلى منصة إقليمية لاستقطاب الاستثمارات نحو بلدان جنوب الصحراء. تنظيم قمة بهذا الحجم يؤكد أن المملكة لم تعد مجرد طرف داعم، بل أصبحت مركز ثقة يُعوَّل عليه لتأمين الانتقال الاقتصادي في بلدان تعاني من هشاشة مؤسساتية وصعوبات تنموية، مثل إفريقيا الوسطى.
- جلالة الملك محمد السادس.. رؤية ملكية شاملة لإفريقيا
منذ توليه العرش، أبان جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده عن اهتمام استثنائي بالقارة الإفريقية وشعوبها، تجسد في زياراته الملكية المتعددة لدول القارة، وتوقيع عشرات الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف، خصوصًا في مجالات البنية التحتية، التعليم، الصحة، والزراعة.
ويحرص جلالته باستمرار على ترسيخ مبدأ التضامن الإفريقي، حيث شدد في أكثر من خطاب على أن “إفريقيا ليست قارة متسولة، بل قارة واعدة، وقادرة على النهوض بنفسها إذا ما اعتمدت على أبنائها وتعاونت فيما بينها”.
كما ساهم المغرب، تحت قيادة جلالته، في دعم جهود السلم والمصالحة في عدة دول إفريقية، مقدمًا نموذجًا للتعاون جنوب-جنوب قائم على الاحترام، التضامن، والنفع المتبادل.
هذا التوجه الملكي أسهم في إعادة تموقع المغرب داخل الاتحاد الإفريقي، بل وجعل من المملكة قوة إقليمية تُستشار وتُعتمد عليها في الملفات الكبرى للقارة.
- تجسيد فعلي لسياسة “جنوب-جنوب”
الرسالة الأهم في هذه القمة ليست رقم الاستثمارات المأمول فقط، بل في المكان الذي تُعقد فيه: الدار البيضاء. فاحتضان المغرب لهذا اللقاء يعكس بوضوح سياسة التعاون “جنوب-جنوب” التي يدعو إليها جلالة الملك محمد السادس، والتي تقوم على الندية والتكامل، لا على الإملاءات والمساعدات المشروطة.
الرئيس فوستين أركانج تواديرا لم يأتِ إلى المغرب بمفرده، بل سبقه وفد رفيع يضم رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمعية الوطنية وشخصيات بارزة. هذا الحضور الكثيف يُفهم منه أن إفريقيا الوسطى ترى في المغرب أكثر من شريك اقتصادي؛ بل كجسر آمن نحو التمويلات الدولية والاستقرار الإقليمي.
- رسائل ضمنية موجهة للعالم
القمة توجّه رسائل متعددة الأطراف. أولاً، إلى الدول الإفريقية: مفادها أن بإمكانها أن تعتمد على بعضها البعض في تحقيق أهداف التنمية، بعيدًا عن التبعية للمؤسسات الغربية. وثانيًا، إلى المستثمرين الدوليين: بأن المغرب يُعد بوابة آمنة ومهيكلة لدخول الأسواق الإفريقية ذات الإمكانيات العالية. وثالثًا، إلى المنافسين الإقليميين، بأن المغرب لا يكتفي بالحياد الإيجابي، بل يطمح إلى لعب دور الوسيط والفاعل في آنٍ واحد.
- استثمار في الاستقرار قبل الأرباح
ما يميز هذا النوع من المبادرات المغربية هو أنها لا تقتصر على الأبعاد المالية، بل تستند إلى رؤية شاملة تعتبر أن التنمية الاقتصادية هي المدخل الحقيقي للاستقرار السياسي والأمني. وبالتالي، فالمملكة تُدرك أن نجاح خطط التنمية في بلدان مثل إفريقيا الوسطى سيعود بالنفع على كامل القارة، ويقلل من التحديات الأمنية المشتركة، وعلى رأسها الهجرة غير النظامية والإرهاب.
- الدار البيضاء.. عاصمة اقتصادية بقلب إفريقي
ليس من قبيل الصدفة أن يتم اختيار الدار البيضاء، فهذه المدينة التي لطالما كانت قلب الاقتصاد المغربي، تتحول اليوم إلى مركز دولي للمؤتمرات الإفريقية والمبادرات الاستثمارية. إنها تعكس النموذج المغربي في الدمج بين البنية التحتية المتطورة والانفتاح على إفريقيا من منظور تشاركي.
- خلاصة القول:
المغرب يثبت أن القارة لا تُبنى بالوعود فقط.. بل بالشراكات الفعلية.
من خلال هذه القمة، يكرس المغرب مكانته كدولة صاعدة، موثوقة، ومنخرطة بجدية في مستقبل القارة. والفضل الكبير في هذا التموقع الإقليمي يعود إلى الرؤية المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، الذي جعل من إفريقيا ركيزة أساسية في السياسة الخارجية للمملكة.
في عالم يتغير بسرعة، يُثبت المغرب مرة أخرى أنه “أرض الفرص”، ليس فقط لنفسه، بل لشركائه الأفارقة أيضًا.