ذ. محمد بادرة
من المفاهيم الشائعة عن الإدارة والتي لا تمت بصلة الى المفهوم الحقيقي لها أنها مفهوم دال على السلطة والصرامة والإكراه وفرض الالتزام بواسطة القوانين والتعليمات ومن تم تكون الإدارة أشبه بالآلة الصماء تفتقد الى الرّوح والحيوية ولذا ارتأى بعض الباحثين التمييز بين مفهومي الإدارة والقيادة ونحتوا مصطلحا جديدا وهو (القيادة الإدارية) وهو نوع خاص من أنواع القيادة (يستهدف كافة الأساليب الإدارية التي تؤثر في سلوك الأفراد بما يكفل تحقيق الهدف) ويتطلب ذلك بالضرورة أن يكون المسؤول الإداري بارعا في القيادة والقيادة هي (لب الإدارة ومن يتولاها فعليه أن يجتهد ويبتكر ويخطط حتى يستطيع أن يحقق الأهداف المرجوة) أما المسؤول الإداري المحافظ والتقليدي فيتصرف كمنفذ للتعليمات والكراريس الإدارية ويعمل من أجل أن يحافظ على الوضع الراهن ولا يسعى لتغييره أو تجويده لأنه يرى نفسه جهازا تنفيذيا ملزما بتنفيذ الأوامر والتعليمات دون أن يتحقق من صلاحيتها و جدوائيتها وملاءمتها لمؤسسته أو ادارته في حين أن الإداري- القائد أو القائد التربوي يسعى ويعمل الى التغيير والتطوير والتجويد فهو (كالمضغة التي بصلاحها تصلح شؤون المؤسسة وبفسادها تركن وتتقهقر).
الإدارة التربوية الناجحة لا يقتصر دورها على تسيير الشؤون الإدارية فحسب وإنما عليها أن تضطلع بمهام أكبر وأعظم ويتمثل بعضها في (مجموعة من العمليات الوظيفية عبر اتباع طريق التخطيط والتنظيم والتنسيق والتدبير التشاركي والرقابة والتقويم) ومن شأن هذه العمليات الوظيفية أن تؤدي الى خلق التأثير في سلوك كل أفراد المجتمع المدرسي من المتعلمين والمدرسين والإداريين وكل العاملين وصولا الى تحقيق أهداف تعليمية مدرسية بجودة وفعالية واعية وبأقل جهد وتكلفة.
الإدارة التربوية المدرسية هي (مجموعة من العمليات والإجراءات التي تصمم وفق تنظيم وتنسيق وانسجام بين عناصر العملية التربوية للاتجاه بالطاقات والإمكانات البشرية والمادية نحو أهداف موضوعة تعمل على تحقيقها في اطار النظام التربوي الشامل وعلاقته بالمجتمع أي أنها عملية علمية منظمة ومنسقة هدفها التوظيف الأمثل للطاقات الانسانية والمادية لتحقيق الأهداف التربوية للمجتمع.. ولذلك يمكن اعتبارها عنصرا مهما تتوقف عليه مدى فاعلية أداء المؤسسة التربوية والتعليمية .. كما أن تأكيد أي تطوير في التربية لابد من أن يسبقه أولا تطوير في ادارتها) د. يزيد عيسى السورطي- “السلطوية في التربية العربية”
ويمكن اختصار وظائف الإدارة المدرسية الجديدة في المخطط التالي:
معطيات جديدة ـــــــ تخطيط + تنظيم + تنسيق + رقابة + تقويم ـ ــــــ مخرجات ونتائج
المدرسة باعتبارها مؤسسة اجتماعية فهي دائمة الحراك والدينامية وبالتالي تظهر فيها مستجدات بشكل مستمر (مناهج جديدة – نظام تعليمي متغير باستمرار – واقع تربوي مركّب – قوانين تربوية طارئة – وسائل تعليمية حديثة – خصاص في الأطر والموارد – الاكتظاظ – …) هذه المعطيات وكل المستجدات تملي على القيادة الإدارية استحضارها بوعي وفعالية أثناء صياغة مشروع المؤسسة أو أي مخطط تربوي قصير أو متوسط المدى مع تحديد الأهداف وتنظيم المهمات وتوزيعها على الأطر والأفراد وتأتي مرحلة مراقبة كل أطوار الإنجاز بغرض التعرف على الاختلالات قصد اعداد خطة بديلة وعاجلة لأجل تجاوز العقبات وأخيرا تقييم ما تم انجازه وتحقيقه من الأهداف المعلنة في المشروع.
هذه الوظائف والعمليات المتداخلة وخصوصا منها تشخيص المشكلات وتحليلها وتقديم الاقتراحات والحلول لمعالجتها في ضوء الإمكانات المتاحة هي من فعل الإدارة التربوية الجديدة والتي عليها أن تتحرر جزئيا من تحكم السلطة المركزية في التفكير والتخطيط واتخاد القرارات بل ان المنظومات التربوية والإدارية المعاصرة أزاحت اليوم ذلك الخط الوهمي الفاصل بين العمل البيداغوجي والعمل الإداري والذي يعتقد الكثيرون أن الأهداف الأساسية للمؤسسة التربوية يحققها الأساتذة بمعزل عن الأطر الإدارية وهذا خطأ جسيم يسقط فيه الكثير من المهتمين بالشأن التربوي اذ لا يمكن أن نتصور نجاح منظومة تربوية تقوم بإصلاحات وتغييرات فقط في الجانب التربوي والتعليمي بينما تظل ادارتها تسير ببطء في مساحة محدودة وبتدخلات معدودة لا تتجاوز حصر لوائح التلاميذ وضبطهم وغيابهم وتدبير شؤون المراسلات والمكاتبات وغيرها.. في حين أن مجال الإدارة التربوية الجديدة اتسع ليشمل الاهتمام بكل الجوانب الإدارية والتربوية والمادية وتمويل البرامج التعليمية والتخطيط لها وتنظيم العلاقة بين المدرسة والمجتمع المحلي وكل أوجه النشاط المدرسي.
وتعتبر المنظومة التربوية الحديثة مدير المدرسة قائدا تربويا مهمته التخطيط والتنظيم والتنسيق والاشراف على تحقيق الأهداف التربوية المرسومة والمعلنة للمجتمع، ومن السمات الشخصية لمدير المدرسة حتى يكون قائدا تربويا ناجحا ومبدعا:
أن يكون اطارا تربويا مؤهلا علميا ومهنيا قادرا على مواجهة الصعاب وتجاوز المثبطات والعراقيل التي تعيق تحقيق الأهداف التربوية العامة والخاصة.
أن يكون قدوة حسنة في تعامله وسلوكه لأن العاملين في المؤسسة من الأطر التربوية والإدارية والأعوان وكل افراد المجتمع المدرسي يتأثرون بسلوك المدير(رئيس المؤسسة) ويحاكونه، فلا يمكن للمدير أن يلح على الجدية والانتاجية والانضباط والالتزام بالحضور في الوقت وعدم التأخر عن العمل ويكون هو أول من يخرق النظام الداخلي.
المدير – القائد والقدوة عليه باحترام القوانين والإلمام بتفاصيلها حتى تكون تدخلاته مؤسسة على مرجعية قانونية اذا تعلق الأمر بالشؤون الإدارية وعلى مرجعية علمية بيداغوجية اذا تعلق الأمر بمسائل تربوية وتعلمية.
أن يكون عليما بالمهارات التواصلية ومتمكنا من قواعد التواصل مع مختلف الشركاء التربويين وشركاء المؤسسة من المجتمع المحلي وبأن تكون له القدرة على توصيل الأفكار والآراء ومحاججة المخاطبين لأن التجربة أتبثت أن المدير قد يمتلك خزانا هائلا من الأفكار والرؤى التي من شأنها تطوير المؤسسة التعليمية لكنه قد يفرضها بأسلوب بيروقراطي فلا يتأتى لها النجاح لفشله في ايصالها وتبليغها.
أن يمتلك خبرة من المعرفة التقنية حتى ينجح في اعداد وإنجاز الأعمال الإدارية والمكتبية، فالمدير الكفء هو الذي يملك مهارات التخطيط والتنظيم وتحسين العملية التعليمية مع امتلاك تقنيات اعداد وإنجاز الجداول الإحصائية والأرقام والأعداد وتحليلها وتفعيلها بيداغوجيا دون أن تتدخل الاعتبارات والقناعات الشخصية في اتخاد القرارات وتنفيذها.
أن يكون عادلا بين الموظفين وأن يتفاوت الموظفون لديه بحسب اجتهادهم والتزامهم مع الحرص على خلق جو ديموقراطي يسوده التشاور والاقناع لا التسلط والإكراه والخوف ولا السير على نهج المثل الشائع (لا أريكم الا ما أرى) فعليه أن يعطي حرية المشاركة والتعبير للمدرسين في اقتراح الحلول وتجربة ما يقترحونه من أراء للتحقق من صلاحياتها خاصة وأن المقاربة بالكفايات تلح كثيرا على فتح مجال الاجتهاد أمام المدرسين لابتكار وضعيات تعلمية تلائم الصف الذي يشرفون عليه.
القابلية للتكوين المستمر والاطلاع على المستجدات التربوية والإدارية في حينها والحرص على التمكن منها قصد تبليغها بأمانة للموظفين الذين يشرف عليهم. (أ. السعيد بو عبد الله).
في بحث علمي سابق عن صفات المديرين المبدعين واختلافهم عن المديرين العاديين أو ما يميز المديرين عن القادة قامت مؤسسة غالوب Gallup Organisation في احدى دراساتها العلمية بمسح لنحو 80 ألف مدير بينت فيه أن هناك أنماطا عديدة من الإدارة مثلما أن هناك أنماطا عديدة من المديرين وأن هناك خاصية واحدة تفصل المديرين المبدعين عن بقية المديرين وهي أنهم يملكون القدرة على اكتشاف ما يتفرد به كل فرد من موظفيهم ومن ثم يستفيدون ويفيدون من تلك الخاصية الفريدة في ادارة وتوظيف ذلك الشخص أو ذاك أما المديرون العاديون فهم لا يتعدون كونهم مثل لاعبي (داما) بينما يشبه المديرون المتميزون بلاعبي (الشطرنج) والفارق هو أن أحجار (الداما) متماثلة وتتحرك بالطريقة نفسها دون تغيير أو تعديل أما في لعبة (الشطرنج) فان كل حجر يتحرك بطريقة مختلفة ولن تستطيع اللعب ان لم تعرف وجهة كل حجر… وهنا يأتي دور المدير القائد والمبدع الذي يستطيع أن يمسك بخيوط اللعبة بمهارة فائقة ويحرك حجارته (موظفيه) على النحو الذي يحقق أفضل النتائج، فهو يعرف ويثمن القدرات الفردية لموظفيه ويعرف جيدا متى وكيف يعمل على دمجهم في خطط متكاملة مع بقية زملائهم (ماركوس بكنهام).
المدير القائد المبدع عليه يكون عليما بالمهارات المختلفة لكل شخص من أفراد موظفيه ويستطيع أن يحول قدرات ومهارات كل موظف الى انجازات وأن الاستفادة من المهارات التي ينفرد بها كل موظف تعد من أبرز الوسائل الناجعة في الإدارة القيادية للأسباب التالية :
أولا أن تحديد قدرات الشخص والإفادة منها توفر الوقت والجهد.
ثانيا أن الإفادة من الخصائص الفريدة للشخص تجعله أكثر مسؤولية.
ثالثا أن الإفادة من خصائص الأشخاص تنمي الشعور بروح الفريق.
المدير-القائد يعرف كيف ومتى يضغط على المفتاح المناسب لكل فرد من أفراد موظفيه وعندها سيندفع كل موظف بأقصى طاقته لينجز أداء جيدا أما ان ضغط المدير على المفتاح الخاطئ فعندئذ سينغلق الموظف على نفسه ولن يتقدم في عمله ولن يؤدي وظيفته كما يجب القيام بها …ان لكل موظف مفتاح خاص وتعامل خاص لا يعرفه ويصل اليه الا المدير المبدع لا المدير الجامد الجاحد.
وأن سر نجاح المديرين-القادة أو المديرين المبدعين في مهامهم هو تقديرهم للاختلافات الشخصية لموظفيهم واتصافهم بالصبر والأناة في معالجتهم للقضايا والمشكلات التربوية والإدارية كما أنهم يمكّنون موظفيهم من اطلاق العنان لقدراتهم الكامنة في المهارات التي يجيدونها وليس بقولبة تلك القدرات وتجميدها أو في وضعها في غير مكانها.
أما المدير التقليدي فلا يعير الاعتبار للدوافع الخاصة ولا للاختلافات والتباينات بين الموظفين وإنما يتعامل معهم بمزاجية ومحسوبية فيكيل المدح للمقربين أو الذين ينفذون ما يطلب منهم ويوبّخ وينبّه الذين لا يسايرونه في الرأي والطريقة وكأنه يعمل على قولبة وتحويل كل موظف الى صورة مطابقة للنسخة الأصلية للمدير.
المدير التقليدي يكون جامدا في تسييره وجاحد في رأيه، يعمل على تأكيد الالتزام بالتقاليد التربوية الصارمة لصيانة البنيان الإداري وحمايته من (شر الأفكار الدخيلة والهدامة) عن طريق مساطير التحكم مما يؤدي الى انعزال الموظفين وعدم انخراطهم الطوعي في المشروع التربوي المندمج للمؤسسة، ويشعر العاملون في ظل هذه الإدارة التقليدية أن مواهبهم وقدراتهم مكبوتة فيملّون من الرّوتين ولا يحسون بالمسؤولية وكأنه ليس لديهم أي انجذاب تجاه مؤسستهم. وفي نظر (كروزير) فان مصدر الروتين هو تأثير شخصية المدير التقليدي على محيط العمل .. انه كاتم الأسرار يحتفظ بالمعلومة ولا يشاركها مع فريق عمله – يتجاهل المدرس ولا يبالي بتفانيه في العمل – يدوّن الأخطاء ويحاسب عليها دون بحث أو تحري – يشق صفوف العاملين ويقرب اليه أفرادا دون اخرين – يحول الأفراد العاملين الى كائنات جامدة يسلبهم القدرة على الابداع والتفكير – يتكل على القوانين النصية والأنظمة الجامدة ويعيق كل تدبير تشاركي .. يخاف من الفشل ويتجنب المخاطر ويقاوم التغيير ويتمسك بالنصوص ويقتل التحفيز والتقدير ويهدد بالتوبيخ العلني والعقاب الاداري … انها صور دالة على حقيقة وواقع الإدارة التقليدية.
ان ادارتنا التربوية الحالية قد طالتها الاتهامات والانتقادات ومن كل فج عميق فكثر حولها النقد والانتقاد وغابت البدائل والحلول الا أنه رغم كل المساوئ والنقائص فإدارتنا التربوية ليست رديئة الى الحد الذي تتداوله وسائل الاعلام بشتى أنواعها أما الابداع والجودة فهي فعلا نادرة …
