لحظة فارقة تلك التي شهدتها قاعة غرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بأكادير، في مسار العدالة الجنائية المغربية، بإصدارها أو حكم قضائي بعقوبة صارمة في ملف أعمال الشغب والتخريب التي عرفتها مدينة إنزكان، قضى بالسجن النافذ لمدة عشر سنوات في حق أحد المتورطين في جرائم إضرام النار والإعتداء على القوات العمومية وتخريب الممتلكات العامة والخاصة. حكم رادع جاء ليعيد التأكيد على أن دولة القانون لا يمكن أن تتهاون مع كل من يحاول المساس بالأمن العام أو تقويض النظام العام تحت غطاء الإحتجاج أو التعبير المشروع، وأن هيبة الدولة و مؤسساتها وأمن المواطنين وسلامة ممتلكاتهم تبقى خطا أحمر لا يسمح المساس به.
هذا الحكم الذي هز الرأي العام الوطني لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق العام الذي يعيشه المغرب، حيث تصاعدت خلال الأسابيع الأخيرة موجة من الإحتجاجات الشبابية التي إنحرفت في بعض المناطق عن سلميتها بسبب مدسوسين ومجرمين ،لتتحول إلى أعمال عنف وتخريب منظمة إستهدفت ممتلكات الدولة والمواطنين، ورجال السلطة والقوات العمومية.
إن صدور هذا القرار القضائي يعبر عن يقظة العدالة المغربية وإرادتها في ترسيخ مبدأ سيادة القانون، وإعادة الثقة في المؤسسات القضائية كحام للحقوق وضامن للأمن الجماعي.
فمن الناحية القانونية، فإن الأفعال المنسوبة إلى من صدر هذا الحكم في حقه، تندرج ضمن الجرائم الموصوفة بالخطيرة، والمقررة في الفصول 580 و581 و590 و594 من القانون الجنائي المغربي، وكذا الفصل 267 مكرر الذي يشدد العقوبة على الإعتداء على الموظفين العموميين أثناء مزاولتهمخ لمهامهم. وهي جرائم تمس بسلامة الأشخاص والممتلكات وبهيبة الدولة، وتشكل تهديدا مباشرا للسلم العمومي والإستقرار الاجتماعي، مما يبرر تشديد العقوبة تحقيقا للردع العام والخاص. وقد استندت ذات المحكمة في تقديرها للعقوبة إلى جسامة الأفعال وخطورتها على النظام العام، معتبرة أن حماية المجتمع ومؤسساته تقتضي مقاربة زجرية حازمة ومتوازنة.
غير أن ما يمنح هذا الحكم مصداقية مضاعفة هو أنه صدر في محاكمة علنية وحضورية،إستوفيت فيها كافة ضمانات المحاكمة العادلة المنصوص عليها دستوريا ودوليا. فقد تم تمكين المتهم من حقه في الدفاع، بحضور محاميه ومراقبة ممثلي النيابة العامة وهيئة المحكمة، في احترام تام لمبادئ العدالة الجنائية المنصفة، كما وردت في الفصل 120 من دستور 2011 الذي يكرس حق كل شخص في محاكمة عادلة. وبذلك يكون القضاء المغربي قد أظهر أنه لا يمارس الصرامة بمعزل عن القانون، بل في إطاره وبموجب قواعده، مما يعزز ثقة المواطن في إستقلال السلطة القضائية وقدرتها على تحقيق العدالة دون إنحياز أو تعسف.
وفي الوقت الذي يشكل فيه هذا الحكم رسالة واضحة ضد الفوضى والعنف والتخريب ، فإنه لا يجب أن يقرأ كإغلاق لباب التعبير أو الإحتجاج السلمي، بل يؤكد على ضرورة التمييز بين التظاهر المشروع والفعل الإجرامي. فالمغرب، كما أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده في أكثر من خطاباته، هو بلد يضمن حرية الرأي والتعبير، ويكفل الحق في التظاهر السلمي وفق الضوابط القانونية، في إطار إحترام المؤسسات وصيانة الأمن العام. ومن هذا المنطلق، فإن الردع القضائي لا يستهدف الإحتجاج السلمي، بل يوجهه نحو مساره القانوني الصحيح، حماية لحق المواطنين في التعبير دون خوف أو فوضى.
كما يأتي هذا الحكم في سياق وطني يطغى عليه وعي متزايد بخطورة توظيف الإحتجاجات لأغراض مشبوهة أو تحريضية، حيث كشفت التحقيقات عن تورط عناصر إجرامية “مندسة” حاولت إستغلال حراك الشباب لتأجيج العنف وزعزعة الاستقرار. ومن ثم فإن الرسالة التي بعثت بها محكمة الاستئناف بأكادير مزدوجة، هي أن الدولة لن تتهاون مع أي مساس بالأمن أو إعتداء على القوات العمومية أو الممتلكات، و بأن المغرب دولة مؤسسات وقانون، تحاسب وفق الأدلة والحجج و تدافع عن الحقوق في إطار العدالة، وتوازن بين مقتضيات الأمن ومبادئ الحرية وحقوق الإنسان.
ختاما، إن صدور هذا الحكم لا يعد مجرد إدانة لفعل إجرامي معزول، بل هو إعلان عن بداية مرحلة جديدة من الصرامة القضائية المنضبطة، التي تجعل من القانون مرجعا وحيدا، ومن العدالة حصنا لهبة الدولة والمجتمع. إنه تأكيد على أن الإحتجاج السلمي حق دستوري مصون، أما التخريب والعنف فجرائم يعاقب عليها القانون، وأن دولة الحق لا تدار بالإنفعال والفوضى والعنف ، بل بسيادة القانون والإحترام المتبادل بين المواطن ومؤسساته. فالعدالة المغربية اليوم ومن أكادير وجهت رسالتها بوضوح، فلا تراجع عن الإصلاح ولا تسامح مع الفوضى، لأن الحرية الحقيقية لا تقوم إلا على قاعدة المسؤولية.
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام بهيئة المحامين لدى محاكم الإستئناف بأكادير وكلميم والعيون
باحث في الهجرة وحقوق الإنسان.