تعيش منطقة إيليغ بإقليم تيزنيت على وقع جدل متصاعد عقب إعلان جمعية إسمكان تأجيل تنظيم موسم “لمعروف ن إسمكان”، وهو القرار الذي جاء في سياق خلاف مع آل بودميعة، التي عبرت في بيانها عن رفضها للحدث، مستندة إلى ما اعتبرته “حقوقا تاريخية” في ارتباط الطقس بها وبأسلافها. وبين لغة “المنع” ولغة “لانكسار”، كما وصفها الفاعل المدني سعيد رحم، يطرح اليوم سؤال واسع، لمن ينتمي التراث؟ ومن يملك حق تأويل الذاكرة الجماعية المشتركة؟
في هذا الإطار، تقدم تدوينة سعيد رحم، التي حملت عنوان “إسمكان وأمراء!”، قراءة معمقة لوثائق الخلاف، معتبرة إياها مادة تاريخية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية صالحة للدراسة، لما تحمله من شحنات رمزية كاشفة للبنى العميقية في علاقة الذاكرة بالسلطة بالمنطقة، حيث يقول رحم بأن “بيان العائلة محملا بشحنة أورستوقراطية استعلائية تحكمية، تتوشح بنوع من الحنين إلى زمن سيدي هاشم ونجله سيدي الحسين، فيما يقابله إعلان تأجيل المهرجان بلغة انكسار تحمل توقيع الجمعية مصحّح الإمضاء من السلطات…”. ويضيف أن قراءة هذه النصوص تستدعي أدوات التحليل التاريخي والأنثروبولوجي، داعيا إلى تحرّك “جنرالات الأعراس والمهرجانات” – في إشارة ساخرة إلى الأكاديميين المهتمين فقط بمهرجانات الصيف – نحو الملفات الجدية التي تمس صلب تركيبة المجتمع وسردياته.
ويرتكز بيان آل بودميعة المعلن على فكرة أن الطقس موروث خاص مرتبط باسمها، وهو ما يصطدم – وفق تحليل رحم وعدد من المهتمين – بحقيقة أساسية، وهي أن التراث الشفهي والطقوسي ملك جماعي لا يختزل في عائلة واحدة ولا في حيز جغرافي واحد. فـ “إسمكان” ليس طقسا محليا صرفا، بل هو تقليد منتشر في مناطق واسعة من المغرب، اشتوكن، تماعيت، أداوكران، المزار، التمسية، وازرو على ضفاف سوس… مما يجعله جزءا من الموروث الثقافي الوطني المتعدد الفروع، لا الإرث الخصوصي. ويرى رحم أن الاحتجاج بكون العائلة “الوريث الشرعي الوحيد للذاكرة الأصلية، يثير أسئلة تاريخية و قانونية وأخلاقية حول معنى الذاكرة المشتركة، بل ويقع في تناقض ذاتي حين يعترف البيان نفسه بأن الطقس جزءٌ من “الذاكرة الجماعية للمنطقة”.
ومن هذا المنطلق، يحذر رحم من أن الخطاب الوصائي الذي يتضمنه بيان المنع يعيد إنتاج منطق الهيمنة القديمة التي مارستها سلطات تقليدية في سياقات تاريخية مختلفة. فالتمسك بامتلاك الطقس يختزن – حسب تحليله – حنينا غير معلن إلى مرحلة اجتماعية تراتبية، كانت فيها السلطة الرمزية حكرا على فئة دون أخرى، وهو ما يناقض روح الممارسة الثقافية اليوم، التي تجعل من التراث مجالا للتشارك لا الاحتكار. ويذكر في هذا الصدد بأن “إسمكان” مصنف منذ 2019 ضمن قائمة التراث الإنساني غير المادي لدى اليونسكو، ما يعني أن ملكيته أصبحت كونية ومشتركة، وأن حمايته مسؤولية جماعية، وأن تأويله لا ينبغي أن يخضع لمنطق “الإذن” بل لمنطق الانتماء.
ويبرز في هذا النقاش، كما يلاحظ رحم، تغييب لمحور أساسي في المناقشات الأكاديمية المصاحبة سابقا للمهرجان، وهو علاقة العبودية بالسلطة في تاريخ إيليغ. فكان من الممكن – حسب قوله – أن يشكّل كتاب “جند وخدم وسراري: الرق في المغرب” لمحمد الناجي منطلقا لنقاش صريح حول البنية الاجتماعية والاقتصادية التي قامت عليها سلطة إمارة إيليغ في القرون الماضية، خاصة وأن الكتاب يفكّك “خرافة معاملة العبيد بالحسنى” ويضع الظاهرة في سياقها الواقعي. إن تجاهل هذا الجانب يفوت فرصة لفهم التاريخ كما هو، بكل تعقيداته، ويترك فراغا معرفيا يملأ بخطابات التقديس أو الاستحضار الانتقائي للماضي.
وتخلص النقاشات المتداولة إلى أن إيليغ ليست ذاكرة عائلية ضيقة، بل فضاء تاريخي تتقاطع فيه روافد السلطة والهوية والمجتمع. وأن الطقس، باعتباره ممارسة رمزية حية، لا يمكن اختزاله في ملكية، ولا يمكن تدبيره بمنطق المفاتيح والبوابات”، فالطقوس تتطور عبر الزمن، وتتغيّر وظائفها، كما حدث مع “تاسكيوين” التي انتقلت من وظيفة حربية إلى رمز تراثي، والذاكرة الجماعية لاتورث بوصية، بل تعاش وتعاد قراءتها من طرف المجتمع.
بالتالي، فإن النزاع القائم اليوم ليس مجرد خلاف حول مهرجان، إنه مرآة تعكس صراعا أعمق حول من يملك الحق في كتابة السردية التاريخية. وهو ما يستدعي الاعتراف بكون التراث ملكا مشتركا للمغاربة كافة، وفتح نقاشات علمية جريئة حول التاريخ الاجتماعي للمنطقة وعلاقة السلطة بالعبودية والذاكرة الجماعية لسوس.
