بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
شهدت قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين مواجهة دبلوماسية جديدة حول قضية الصحراء المغربية. وكما جرت العادة في مثل هذه المناسبات، حاول وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف إعادة تدوير الخطاب التقليدي لبلاده، متجاهلاً المتغيرات الدولية والإقليمية التي أضحت تؤطر الملف. في المقابل، جاء رد السفير الممثل الدائم للمملكة المغربية لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، مختلفاً في الأسلوب والمضمون: حازم دون عدائية، قائم على الحقائق لا على الأوهام، ومرتبط بمرجعية أممية واضحة لا لبس فيها.
- عمر هلال: ديبلوماسية الحزم والاتزان
تميّز خطاب السفير المغربي بتركيزه على تقديم الحقائق كما هي، من دون انفعال أو لغة هجومية. هذا الأسلوب جعل مداخلته تلقى صدى قوياً، لأنها اعتمدت على مرجعية تاريخية وقانونية لا يمكن الطعن فيها. هلال لم يسعَ إلى “التنابز” أو “تبادل الاتهامات”، بل أوضح النقاط واحدة تلو الأخرى، مستنداً إلى قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، ومذكّراً بما يحرص المغرب دوماً على إبرازه: روح التعاون وحسن الجوار، حتى مع بلد يختار لغة القطيعة والتصعيد مثل الجزائر.
- التاريخ شاهد: المغرب من بادر إلى إدراج القضية
أول ما شدد عليه هلال أن المغرب هو من بادر سنة 1963 إلى إدراج قضية الصحراء ضمن جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، مباشرة بعد الاستقلال، باعتبارها قضية إنهاء استعمار إسباني. بهذا التذكير، وضع السفير المغربي حداً لمحاولات التلاعب بالسردية التاريخية، مؤكداً أن المغرب لم يتهرب يوماً من المؤسسات الأممية، بل كان المبادر إليها.
كما لفت الانتباه إلى القرار رقم “3458B” الذي اعتمدته الجمعية العامة قبل نصف قرن، وأخذ علماً باتفاقيات مدريد التي أنهت الاستعمار الإسباني. هذا القرار، الذي كثيراً ما تتجاهله الأطروحة الجزائرية، يكشف أن الشرعية الدولية لم تتبنَّ يوماً “وهم الدولة المزعومة”، بل اعترفت بمسار سياسي وقانوني واضح.
- منطق الأمم المتحدة: حل سياسي واقعي
ركز السفير هلال على أن مجلس الأمن لا يتعامل مع قضية الصحراء كملف “تصفية استعمار”، بل كقضية سلم وأمن إقليميين، تُدار في إطار البحث عن حل سياسي توافقي. منذ سنة 2007، أصبحت قرارات المجلس تُكرّس المبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها “جادة وذات مصداقية”، وتحظى بدعم متزايد من المجتمع الدولي.
هذا التحول في التعاطي الأممي ليس صدفة، بل ثمرة عمل دبلوماسي متواصل قاده المغرب، حيث نجح في إقناع القوى الكبرى بأن الحكم الذاتي هو الحل الوحيد القابل للتطبيق، في مقابل “الأوهام” التي يروجها الخصوم حول استفتاء لم يعد مطروحاً على أجندة الأمم المتحدة.
- الواقع الميداني: الأدلة في مواجهة الأوهام
واحدة من أقوى لحظات خطاب هلال تمثلت في استعراضه “الوقائع على الأرض”. فبينما يتحدث الوزير الجزائري عن “وقائع مفروضة”، جاء رد المغرب بالأرقام والمشاريع:
-بنيات تحتية استراتيجية: أطول جسر في إفريقيا، طريق سيار يربط الشمال بالجنوب، ميناء ضخم على الأطلسي سيكون الأكبر في إفريقيا.
-تنمية بشرية: جامعات، مستشفيات جامعية، مراكز تكوين، وبرامج اجتماعية موجهة للسكان المحليين.
-مشاركة سياسية: ساكنة الأقاليم الجنوبية تشارك بفعالية في جميع الانتخابات الوطنية، وتُمثل في البرلمان والمجالس المحلية.
-اعتراف دولي ملموس: فتح أكثر من 30 قنصلية عامة في العيون والداخلة، وهو مؤشر دبلوماسي لا يقبل الجدل.
هذه الأدلة الملموسة تقابلها “أوهام” ترددها الجزائر والبوليساريو، دون أي سند قانوني أو واقعي. وهنا يظهر الفارق بين خطاب يستند إلى معطيات قابلة للقياس وخطاب قائم على شعارات متجاوزة.
- التناقض الجزائري: طرف ينكر مشاركته
من أبرز النقاط التي ركّز عليها هلال هو التناقض الصارخ في الموقف الجزائري: الجزائر تدّعي أنها ليست طرفاً في النزاع، لكنها في الوقت نفسه تضع شروطاً للحل وتحدد أسسه. هذا الاعتراف الضمني بدور الجزائر يكشف أنها طرف مباشر، وأن أي تسوية لا يمكن أن تنجح دون مشاركتها. لذلك، دعا هلال الجزائر إلى الانخراط بجدية في الموائد المستديرة التي ترعاها الأمم المتحدة.
- دعم دولي متزايد: عُزلة الأطروحة الانفصالية
أوضح السفير المغربي أن أكثر من 120 دولة تدعم صراحة مبادرة الحكم الذاتي، من بينها ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن. كما أن عشرات الدول اعترفت بمغربية الصحراء، فيما يواصل الاتحاد الأوروبي توسيع تعاونه مع المغرب ليشمل أقاليمه الجنوبية. هذه المعطيات تؤكد أن الجزائر والبوليساريو أصبحا في عزلة متزايدة داخل المنتظم الدولي، حيث لم يعد أحد يراهن على أطروحة الانفصال.
- المغرب ومعاملة الجوار: خيار الحوار رغم القطيعة
ورغم المواقف العدائية للجزائر، شدد هلال على أن المغرب يظل متمسكاً بروح الحوار وحسن الجوار. استشهد بخطاب الملك محمد السادس نصره الله وأيده في عيد العرش (29 يوليو 2025)، الذي أكد فيه أن الحل يجب أن يكون توافقياً “لا غالب فيه ولا مغلوب”، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف. هذه الروح تؤكد أن المغرب لا يسعى إلى إضعاف جيرانه أو إحراجهم، بل إلى بناء مستقبل مشترك قائم على التعاون.
- قراءة ختامية: دبلوماسية المغرب تكسب رهاناتها
ما برز من خطاب عمر هلال أن المغرب أصبح يراهن على قوة الواقع بدل الانجرار إلى سجالات عقيمة. فالأقاليم الجنوبية اليوم ليست “منطقة نزاع”، بل ورشاً مفتوحاً للتنمية والاستثمار، كما أن الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي بات راسخاً ومتسعاً.
في المقابل، تواصل الجزائر التمسك بخطاب يعود إلى السبعينيات، متجاهلة التحولات الجيوسياسية في المنطقة والعالم. هذا الخطاب، الذي يقوم على “الأوهام” و”المغالطات”، يجد نفسه معزولاً كلما قوبل بخطاب مغربي هادئ، متماسك، قائم على الأدلة.
وبينما يواصل المغرب تعزيز موقعه الدبلوماسي والاقتصادي في إفريقيا والعالم، يظل الباب مفتوحاً أمام الجزائر للانخراط في حل واقعي يحفظ كرامة الجميع. غير أن ذلك يتطلب شجاعة سياسية ورؤية مستقبلية، بعيداً عن حسابات الماضي الضيقة.