أوراق باناما تفضح المستور //

توفيق بوعشرين كُتّاب وآراء

كنز من الأسرار والمعلومات الخطيرة حول الجنات الضريبية وضعها مصدر مجهول في حوزة جريدة ألمانية suddeutsche zeitung قبل سنة، الأمر يتعلق بـ11,5 مليون وثيقة كانت مخبأة في بئر عميقة لشركة بانامية (Mossack fonesca) متخصصة في هذا النوع من النشاط القائم على تسهل غسل الأموال والتهرب الضريبي والتحرك السري، وربح المال بعيدا عن أعين الرقابة.
فحص 11,5 مليون وثيقة كان يتطلب من الجريدة الألمانية أكثر من 30 سنة من العمل صباح مساء للاطلاع على محتوياتها، والاستفادة مما فيها من أسرار عن «بزنس الكبار» حول العالم، لهذا لجأت الصحيفة الألمانية إلى اقتسام هذا الكنز مع 107 وسائل إعلامية حول العالم، حيث اشتغل 370 صحافيا موزعين على القارات الخمس على هذه الوثائق لمدة سنة كاملة للتأكد من صحة المعلومات الواردة فيها، والاستماع إلى آراء المعنيين بالأمر، وذلك في واشنطن تحت خيمة التجمع العالمي لصحافيي التحقيق «icij» (للأسف الشديد لا توجد أي صحيفة عربية أو مغربية ضمن هذا الحلف، لهذا تكلفت جريدة «لوموند» الفرنسية بما يخص المغرب من هذه الوثائق، وهذا لوحده يكشف أحوال الصحافة، وخاصة الورقية منها، في بلادنا التي لم تغر أوراق باناما جلها، واختارت أن تتحدث عن ميسي وبوتين ووالد كامرون، فيما لم تقترب من اسم منير الماجيدي).
منذ تأسيسه سنة 1977، أنشأ المكتب المذكور 214000 شركة في 21 جنة ضريبية حول العالم لزبناء قادمين من 200 دولة، أي من كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، من السيشل إلى الباهماس، ومن باناما إلى الجزر العذراء البريطانية، ومن موناكو إلى سويسرا، كان خبراء المكتب القذر Mossack fonesca ينشئون شركات وهمية بدون نشاط تجاري أو صناعي أو خدماتي واقعي، وعبر هذه الشركات كانت الأموال تنتقل بيسر دون أن يعرف أحد من أصحابها ومن يقف خلفها ومن يستفيد من نشاطها، وهذا لتحقيق فوائد كثيرة؛ أولا التهرب الضريبي، ثانيا السرية، وثالثا التحرك شرقا وغربا دون قيود قانونية في ما يعرف بالشركات الواجهة «sociétés–écrans»، التي تحصل على أسماء مستعارة، وشيفرات سرية في هذه الجنات الضريبية توفر لها الحماية، وتصعب من مهمة تتبع نشاطها أو أسماء أصحابها أو عناوينهم أو حركة أموالهم. إن الأمر شبيه بلعبة الدمى الروسية، حيث تختبئ واحدة في قلب الأخرى.
التحقيقات الصحافية التي بدأت تنشر في الصحف المائة تكشف حقائق صادمة وخطيرة، حيث تظهر الأموال القذرة إلى جانب النظيفة، إلى جانب أخرى لا هي نظيفة ولا هي قذرة.. «رمادية»، كلها تعيش جنبا إلى جنب في هذه الجنات الضريبية، حيث يلتقي الملياردير بائع السلاح، ومهرب البشر، وتاجر المخدرات والمرتشي، والديكتاتور، والهارب من الضريبة، ورئيس الدولة، وعميل المنظمات الإرهابية، والفار من الحصار الدولي، وعراب الجريمة المنظمة، ونجم كرة القدم، ورئيس الحكومة، والسياسي صاحب شعار محاربة الفساد، وتجار السلاح النووي… كل هؤلاء يجاورون بعضهم البعض في انسجام تام، يدينون بدين واحد «الدولار والأورو»، ويتحدثون لغة واحدة هي لغة المال الهارب من القانون، والربح الممتطي صهوة الجشع.
في أوراق باناما التي عرت المستور هناك 12 رئيس دولة ورئيس حكومة، منهم ستة مازالوا في موقع السلطة اليوم، وهناك 128 مسؤولا سياسيا وإداريا كبيرا في بلاده أو في العالم، وهناك أيضا 29 اسما من لائحة فوربيس لأغنى أغنياء العالم، وآلاف الزبناء الآخرين الذين كانوا يتهافتون على خدمات المكتب البانامي الذي بعث رسالة قبل سنة إلى عملائه يخبرهم فيها بأن قاعدة معلوماته اخترقت، وأن معطيات كثيرة تسربت منها إلى أيادٍ مجهولة، وهو الأمر الذي زرع الرعب في قلوب الكثيرين، خاصة في أوروبا وأمريكا حيث القانون فوق الجميع، ومفتشو الضرائب وقضاة المحكمة لا يخشون أحدا مهما كانت سلطته ومقامه واسمه.
بعد وثائق وكيليكس التي فضحت العقل الدبلوماسي الأمريكي، وتسريبات سنودون التي كشفت جزءا من تجسس المخابرات الأمريكية على العالم، وحسابات البنك السويسري الإنجليزي Hsbc التي عرت الحسابات السرية، جاءت أوراق باناما لتطرد النوم من عيون زبناء الجنات الضريبية، وفي كل هذا المسلسل المشوق تنتصب ثلاث حقائق كبيرة:
أولا: مساحة الأسرار في السياسة والأمن والاقتصاد الأسود والأبيض، والبزنس الهارب من القانون تقلصت، وستتقلص إلى حد كبير، لأن ثقافة الشفافية تتسع، وقيم الوضوح تكبر في كل بقاع العالم. سنجد داخل الإدارة أو البنك أو الشركة أو مكتب المحاماة أو المحاسبة أو وكالة المخابرات شخصا لديه ضمير، ولديه شجاعة لكشف المستور، وهو يعرف عناوين الصحف والمواقع التي ترحب بصحوة ضميره، وتحولها إلى قضية رأي عام عالمي.
ثانيا: صحافة التحقيق لم تمت ولن تموت، فرغم كل الصعوبات التي تعانيها مقاولات الصحافة المكتوبة التقليدية، فإنها سجلت نصرا كبيرا من وراء ظهر أوراق باناما، التي نزلت كهدية من السماء في بيتها. أكثر من هذا، دخل صحافيو التحقيق في تحالف عالمي فعال وقوي غير مسبوق للتعاون على مطاردة أسرار الكبار، شركات وقادة نافذين. هذا التحالف يتناغم مع العولمة ومع سقوط الحدود، ومع طبيعة الاقتصاد الأسود الذي يقفز فوق الجغرافيا والأنظمة والقوانين والقيم والأخلاق…
ثالثا: تظهر كل التسريبات، من وكيليكس إلى أوراق باناما، إفلاس السياسة، وجشع السياسيين، واستخفافهم بقوانين بلدهم ورقابة مؤسساتهم. لا فرق بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب إلا في الدرجة والمساحة، وهذا العجز الأخلاقي في سلوك رجال ونساء الدولة والقرار والإدارة والسلطة والمال يفرض تحديث المنظومة القانونية الوطنية والدولية، وتقوية أجهزة الرقابة، وإصلاح أنظمة القضاء، ورفع اليد عن الصحافة، وترك كل هؤلاء يطاردون السحرة الجدد
توفيق بوعشرين

التعاليق (0)

التعاليق مغلقة.