أصبحت جل السلع والخدمات في السوق المغربية تباع بتسعيرة موحدة، ولا يقتصر الأمر على المواد والخدمات المقننة أسعارها من طرف الدولة مثل السلع التالية: السكر، الدقيق الوطني للقمح اللين (المدعم)، غاز البوطان، التبغ المصنع.. أو بعض الخدمات: الإعلانات القانونية في الجرائد، الكهرباء، الماء الصالح للشرب، التطهير السائل، نقل المسافرين عبر الطرق.. بل حتى أسعار السلع الحرة صارت تباع بأثمنة موحدة فرضها القطاع الخاص عن طريق التواطئات السرية والعلنية بين الفاعلين الاقتصاديين، رغم وجود قانون يمنع تلك الممارسات..
سابقا كانت التسعيرة الموحدة حكرا على السلع والخدمات ﺫات الأسعار المقننة، قبل أن تنتقل الى قطاعات اقتصادية محدودة، ينشط فيها عدد محدود من الشركات، مما سهل عملية التواطئ فيما بينها، عبر اتفاقات على تحديد الأسعار وتقسيم السوق وفق أنصبة محددة ووفق هوامش ربح كبيرة مثل: الأبناك، الحليب، الاسمنت، الاتصالات، مسحوق التصبين، زيت المائدة وزيت الزيتون.. استمر الوضع على هـﺫا المنوال الى نهاية العام 2015، حيث تم تحرير أسعار المحروقات من طرف حكومة بنكيران، بعدها صارت أسعار الوقود تباع بأثمنة موحدة في محطات الخدمة، رغم اختلاف ألوان الفاعلين بفعل اتفاق الشركات المعنية ومنظمتها المهنية على تعطيل المنافسة، حيث تبث تواطئها بشهادة مجلس المنافسة نفسه… بعد ﺫلك انتقلت العدوى الى أرباب محطات الوقود، الـﺫين يتفقون على تأخير خفض الأسعار عدة أيام بل أسابيع كلما انخفضت الأثمنة ويسارعون الى رفعها فورا كلما رفعتها الشركات المزودة..
في مايو الماضي، أعلنت الجمعية المهنية لأرباب المقاهي بكلميم، عن تطبيق زيادة جماعية في أسعار المشروبات بمبلغ درهمين.. وقد لقي الإعلان المذكور استجابة فورية لدى أرباب المقاهي، ليس في مدينة باب الصحراء فقط، بل في غالبية المدن المغربية الكبيرة منها والصغيرة، حيث انضمت باقي الجمعيات المهنية الى المبادرة الگلميمية، سواء عبر إعلانات عمومية أو عبر إتفاقات سرية بين المهنيين، في مجموعات الوتساب.. وهكذا صارت عامة المقاهي كيفما كانت طبيعة المقهى ومستوى تجهيزه وجودة الخدمة، تقدم المشروبات الأكثر رواجا مثل الشاي والقهوة، بأثمنة لا تقل عن 11 درهما، تضم كوب قهوة مع قنينة ماء صغيرة تساوي 2 دراهم، بدعوى أن مياه الصنبور غير صالحة للشرب، مستغلين تغير مـﺫاق مياه الشرب في السنوات الأخيرة بفعل تقلص حقينة السدود.. أما مقاهي الأحياء الراقية والشواطئ، فهي في غنى عن اتفاقات الجمعيات المهنية وتطبق تسعيرتها الخاصة، التي تبتدئ من مبلغ 25 درهما فما فوق..
انعكست الزيادة غير المسبوقة في أثمنة المشروبات على رقم معاملات المقاهي، فتراجع إقبال الزبناء عليها ومعظمهم من المدخنين، خصوصا أن الأمر يتعلق بخدمة من الكماليات في ظل وجود بدائل كثيرة منها انتشار المقاهي المتنقلة ووجود ماكينات القهوة في بعض الإدارات العمومية والمكاتب الخاصة وحتى بعض الدكاكين.. وفي الأحياء الشعبية، حاول المهنيون التكيف مع الزيادة الجديدة التي لا ترضي الزبناء، من خلال تقديم كوب القهوة بدون قنينة الماء وبالتالي حصر ثمن الخدمة في مبلغ تسعة دراهم.. وهي مبادرة نالت رضى الجمعيات البيئية، لكون المقاهي تنتج كميات هائلة من النفايات البلاستيكية، لا ندري كيف يتم التخلص منها ؟ ولا يعقل أن يتم احتسابها على أنها “نفايات منزلية” !
اﺫا كان القانون يتيح لأرباب المقاهي الرفع من ثمن المشروبات، في إطار حرية الأسعار، وبالتالي من حقهم ممارسة ما يتيحه لهم القانون، لكن هذه الزيادة في المشروبات بالمقاهي يمكن أن تصبح غير قانونية في حالة وجود اتفاق جماعي بين مهنيي القطاع بهذا الخصوص، حيث تشير المعطيات المتوفرة إلى أن الأمر يتعلق ب “اتفاق جماعي معلن”، مثلما هو الحال في مدينة كلميم التي أعلن أرباب المقاهي فيها عبر وثيقة تم تداولها، عن زيادة درهمين في كل مشروب.. من جهة أخرى، تفاعل مجلس المنافسة مع الاتفاقات الجماعية لأرباب المقاهي على اعتماد تسعيرة موحدة، وأعلن في وقت سابق، أن “الأبحاث الأولية، التي أنجزتها المصالح المختصة للمجلس، بينت وجود عناصر تفيد قيام بعض الفاعلين من أرباب ومسيري المقاهي بتدارس إمكانية إقرار زيادة في تسعيرة استهلاك المشروبات المقدمة، مؤكدا أنه سيتم فتح تحقيق في الموضوع”، لا يزال الرأي العام ينتظر الكشف عن مضامينه…
زحفت ظاهرة الأسعار الموحدة تدريجيا على النسيج الاقتصادي المغربي، فشملت عددا كبيرا من القطاعات والأنشطة الاقتصادية، بل عمت الظاهرة حتى الأنشطة المهنية الصغيرة التي يزاولها صغار التجار، ولا نعني بالتجارة الصغيرة محلات المواد الغذائية أو البقالة بل المحلات التي تمارس أنشطة مهنية في تخصصات مختلفة وفق شكل “شخص ﺫاتي” في الغالب.. كما انتشرت الظاهرة مجاليا ولم تعد حكرا على المدن الكبرى فحسب، بل انتقلت الى المدن الصغيرة ﺫات الرواج الاقتصادي المحدود، بفعل تناسل الجمعيات المهنية التي صارت تلعب دور لوبيات ضاغطة، تفرض التسعيرة الموحدة على أعضائها مثلما يفعل تجمع النفطيين بالنسبة الى الشركات البترولية..
الجمعيات المهنية في قفص الاتهام
تشير أصابع الاتهام في استفحال ظاهرة التسعيرة الموحدة في معظم الأنشطة التجارية الى الجمعيات المهنية التي تحولت الى لوبيات حقيقية، تتواطئ على رفع الأسعار وامتصاص جيوب المستهلك… لدرجة أن أي قطاع اقتصادي وجدت فيه جمعية مهنية لا بد أن تجد فيه اتفاقا جماعيا، سريا أو علنيا، على رفع الأسعار من رأس الهرم من خلال تجمع النفطيين الى أسفل القاعدة من خلال جمعيات المكتبيين… فكل الاتفاقات السرية والعلنية على رفع الأثمنة، ترعاها المنظمات المهنية التي لم تعد تشتغل وفق الأهداف المسطرة في قوانينها الداخلية، وتفرض على منخرطيها البيع بتسعيرة موحدة في خرق سافر للقوانين الجاري بها العمل، الـتي تمنع الاتفاقات على رفع الأسعار أو تخفيضها، كما تنص على ﺫلك المادة السادسة من قانون حرية الأسعار والمنافسة، التي تُحظر الأعمال المدبرة (..) أو التحالفات الصريحة أو الضمنية كيفما كان شكلها وأيا كان سببها، عندما يكون الغرض منها أو يمكن أن تترتب عليها عرقلة المنافسة أو الحد منها أو تحريف سيرها في سوق ما، ولاسيما عندما تهدف إلى:
• الحد من دخول السوق أو من الممارسة الحرة للمنافسة من لدن منشآت أخرى.
• عرقلة تكوين الأسعار عن طريق الآليات الحرة للسوق بافتعال ارتفاعها أو انخفاضها؛
• حصر أو مراقبة الإنتاج أو المنافذ أو الاستثمارات أو التقدم
• تقسيم الأسواق أو مصادر التموين أو الصفقات العمومية”
اﺫا كانت الدولة جادة في تفعيل المنافسة في السوق المغربية، يتعين عليها حل الجمعيات المهنية أو على الأقل مراقبة مدى التزامها بالأهداف التي تأسست من أجلها، لأنها لا تلتزم بالأهداف الواردة في قوانينها الأساسية والمتمثلة بالخصوص في تنظيم المهنيين والعمل على تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية.. وتتفق سرا وعلنا على تعطيل المنافسة في تحد سافر لقانون حرية الأسعار… فالسعر في السوق الحرة يتحدد وفق قانون العرض والطلب وليس بإملاء من المنظمات المهنية.. اﺫ يحق لكل مهني أن يقترح الثمن، الـﺫي يناسب الخدمة أو المنتوج المعروض للبيع وفق سعر التكلفة وهامش الربح..
تيزنيت: مدينة نموذجية في الاتفاقات الجماعية على رفع الأسعار
بدأت التوافقات الجماعية على رفع الأسعار من قطاع النقل بعد اندلاع الحرب الأوكرانية فبراير 2022، رغم أن نقل المسافرين يندرج ضمن الخدمات ﺫات الأسعار المقننة ورغم استفادة المهنيين من دعم الغازوال، حيث فرضت الجمعيات المهنية لأرباب الطاكسيات من الصنف الأول، زيادة في تسعيرة الركوب تراوحت ما بين درهمين وخمسة درهم حسب طول الخطوط.. وهي زيادة فرضت من جانب واحد دون إبرام أي اتفاق مع الإدارة كما ينص القانون، حيث تشترط المادة 5 من قانون حرية الأسعار والمنافسة على “أن سعر السلعة أو الخدمة المنظمة أسعارها، يحدد بكل حرية ضمن الحدود المقررة في الاتفاق المبرم بين الإدارة والمنظمات المهنية الممثلة للقطاع”.. وقد شجع مرور هذه الزيادة مرور الكرام، فئات أخرى من المهنيين على ركوب موجة الزيادات الجماعية في أسعار السلع والخدمات، فبادرت عدة أنشطة مهنية برفع أسعار خدماتها بنسب مختلفة وفرض تسعيرة موحدة، بدءا من مختبرات التصوير الفوتوغرافي ثم مصبنات الملابس.. ولم يتخلف أرباب المكتبات عن الركب، حيث اتفقوا جماعيا على رفع أثمنة خدمة نسخ الوثائق ليصبح درهما واحدا لكل صفحة بدعوى غلاء ورق A4.. في حين استغلت أنشطة مهنية أخرى، تفعيل السلطات العمومية سياسة ترشيد استهلاك الماء، فعمدت الى رفع أسعار خدماتها كما هو الحال بالنسبة لمحلات غسل السيارات والحمامات التقليدية.. حتى عمت الزيادات الجماعية في الأسعار جل الأنشطة الاقتصادية، فلم يبقى أي نشاط بمعزل عن الزيادة في الأسعار، رغم أن الظرفية العامة غير ملائمة بفعل توالي سنوات الجفاف وركود الحركة الاقتصادية وانتشار البطالة.. فقد جرت العادة أن الأسعار ترتفع، خلال فترات الرخاء والازدهار الاقتصادي، لكن في الحالة المغربية ترتفع خلال سنوات الركود والأزمة..
إن استمرار ظاهرة الأسعار الموحدة سيؤدي في آخر المطاف الى قتل التنافسية في الاقتصاد، اﺫ لا نستبعد أن تعم هذه الظاهرة القطاع الغير المهيكل، فتصل الى بائعي السجائر بالتقسيط وماسحي الأحذية وبائعي النعناع.. ولما لا المهن غير القانونية أيضا، فترى بائعات الهوي يؤسسن إطارا مهنيا ويرفعن سعر خدماتهن للزبناء، ما دامت كل الأنشطة المهنية منخرطة في مسلسل شفط جيوب المواطنين بدون حسيب ولا رقيب في ظل خفوت صوت الأحزاب اليسارية وترنح جمعيات حماية المستهلك، التي أصابها شلل غير مفهوم في ظرفية اقتصادية صعبة يئن المواطن لتوفير قوت يومه فما بالك بتدبر مصاريف الكماليات…
لا نبالغ اذا قلنا أن المنافسة في الاقتصاد المغربي صورية مثلها مثل التعددية في الحقل السياسي.. فرغم تعدد الفاعلين الحزبيين يمينا ويسارا، فإن الخطاب السياسي لا يتغير.. متى ينهض مجلس المنافسة من سباته الطويل، ويتحرك بجدية لكبح جماح صغار التجار، الـﺫين يقلدون الحيتان الكبيرة في خرق القانون ويتفقون جماعيا على رفع أسعار السلع والخدمات الحرة منها والمقننة..
إبراهيم اوزيد