اثناء تصفحنا للمصادر التاريخية القديمة من قبيل تحفة النظار لابن بطوطة او كتاب المغرب للبكري او العبر لابن خلدون او نزهة المشتاق للإدريسي او غيرها من المصادر التاريخية القديمة سنندهش لمكانة وصورة المرأة الامازيغية في تلك العصور القديمة حيث اشارت هذه المصادر وغيرها الى مواهب المرأة الامازيغية و كفاءتها في مجالات عدة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تفوق فيها قوة الرجل ومكانته. ونقرا عن ابن بطوطة قولا طريفا اشار فيه الى اندهاشه للمكانة التي حظيت بها المرأة الامازيغية في عصره والعصور السابقة حيث انها احتلت مكانة هامة وسط افراد القبيلة والعشيرة والاسرة واشار في كتابه تحفة النظار ان نساء قبيلة( مسوفة – قبيلة صنهاجية – يتصفن بجمالهن الفائق، وشانهن اعظم من شان الرجال..)هذه القوة – في اعتقاده- تبرز قوة المجتمع الامازيغي في الحرية التي تتمتع بها المرأة المسوفية حيث لا وجود لسلطة مهيمنة او متسلطة او قاهرة على نساء القبيلة رغم سفورهن واختلاطهن بالرجال الا انهن( محافظات على العرف وعلى القوانين القبلية ومواظبات على الصلوات..)- تحفة النظار في عجائب الامصار- ابن بطوطة
المرأة الامازيغية اما كانت ام زوجة ام جدة كانت تتمتع بسلطة قوية داخل الاسرة حيث تحضر وتشارك في المجالس التي تخص امور أسرتها وعشيرتها وقبيلتها بل واليها يعود الفضل في الحفاظ على حروف تيفناغ (الابجدية الامازيغية) التي تخطها في الالبسة والحلي والزرابي ونقش الحناء. انها منتجة للتراث وفي نفس الان هي موضوع التراث نفسه.
المرأة الامازيغية كانت في زمن الحرب تتكفل بالأسرى، ترعاهم وتداويهم الى ان يتحدد مصيرهم بفدائهم او اطلاق سراحهم والى حين ايصالهم الى ذويهم بواسطة النساء العجائز لما لهن من تقدير واحترام من طرف الجميع خصوما ومتحالفين.
المرأة الامازيغية كانت في زمن السلم هي المسؤولة على الحفاظ على الثروة المادية لعائلتها وهي الحريصة على تنميتها بالعمل المتفاني في المراعي والحقول والمغازل والمناسج في غزل ونسج الزرابي والالبسة وهو ما حررها من الاشغال المنزلية وان لم تتخلى عن وظيفتها في البيت تربية وتدبيرا.
المرأة الامازيغية قديما وجدت ضالتها في التنظيم القبلي القائم على مبدا المساواة والتعادلية بين افراد القبيلة، ووجدت ضالتها في الاعراف والتقاليد الامازيغية التي ترفع من قيمة المرأة ومكانتها في بيئة تعتمد على النسب الاموسي او (الامومي) وفي مرحلة سابقة على الفتح الاسلامي حيث كان الابناء ينتسبون الى امهاتهم مثل انتساب ابن تومرت لامه.
المرأة الامازيغية كانت قد تألقت في سماء الثقافة والادب ونالت نصيبا وافرا من العلم لا يقل عن نصيب الرجال ولو في مجتمع تسوده سلطة الفقهاء ورجال الدين (دولة المرابطين).
ومن النساء الامازيغيات اللواتي اشتهرن في هذا ميدان الادب والثقافة نذكر الاميرة تميمة بنت يوسف بن تاشفين اللمتونية وحواء بنت تاشفين وزينب النفزاوية المشهورة في المصادر التاريخية بأدوارها الحاسمة في كثير من الاحداث التي عرفتها الدولة المرابطية اوفي مشاركتها وتسييرها للشؤون السياسية والادارية لمجتمعها وسط سلطة ذكورية يحكمها فقهاء ورجال دين وزعماء قبائل.
المرأة السوسية “تمغارت وورغ”
المرأة في اللسان الشلحى تعني (تمغارت)وجمعها (تيمغارين) وهي لفظة تدل على شخص ذو مكانة اجتماعية وسياسية متميزة كما تعني شخص له شان وسلطان. ولفظة (تمغارت) صيغت من الجدر اللغوي (م غ ر)ومنها صيغ لفظ (ءامغار) وهو الشخص النبيل المرموق اجتماعيا. (ءامغار) هو لفظ لا يطلق الا على اكابر القوم وللتأكيد على قيمة هذا اللفظ عند الامازيغ يمكن الاحالة على شخص المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية وزعيم قبيلة مصمودة الذي كان يطلق عليه من الالقاب اسم (ءامغار)وهو اللقب الذي اخذه عن قبيلته وعشيرته واسرته.
بعد ان اكتسب هذا اللفظ قيمة اعتبارية ورمزية تأنث على صيغة (تمغارت) وهو لفظ يحمل معنى تعظيم شان المرأة وهو ما يبين ما ذهبت اليه المصادر القديمة من ان القبائل الامازيغية كانت والى عهد سابق تنتسب الى الام اكثر ما تنتسب الى الاب (مجتمع اموسي – او امومي) حيث كانت المرأة صاحبة الشأن في مجتمعها ولا تزال تؤدي وظائف جليلة تستحق عليهما الاكبار والتعظيم. وصفات القيادة والزعامة والعطاء والتضحية للمرأة الامازيغية في سوس نابعة من كون :
– المرأة الامازيغية في سوس تحدت ظروف الهجرة الداخلية والخارجية التي عرفتها المنطقة بعد استقلال المغرب، وتحدت قساوة البيئة، وتعايشت مع ظروف الخصاص والتهميش والاقصاء الاجتماعي والاقتصادي السائد في البادية السوسية، واستمرت صامدة تواجه جبروت الحياة الجديدة محافظة على ارث اجدادها وحارسة امينة للأرض والارث.. تحرث تحصد تغزل تنسج وتنمي الارث المادي والرمزي للعائلة.
– المرأة الامازيغية في سوس تحملت مسؤولية تربية الابناء والاحفاد في غياب و ضعف المؤسسات التربوية والاجتماعية الموازية، فكانت اما ومربية وممرضة وفلاحة وراعية وحارسة على ارث وموارد الاسرة الشحيحة. هذا التحدي الاسطوري للمرأة الامازيغية هو الذي جعل البوادي السوسية في اعالي جبال الاطلس الكبير والصغير تحافظ على وجودها واستمرارها رغم الظروف القاسية للطبيعة والحياة بالمقارنة مع مثيلاتها في وسط المغرب او شماله.
– المرأة الامازيغية في سوس كان لها دورا اجتماعيا واقتصاديا في تحريك دواليب الانتاج المحلي بفضل خبرتها ومهارتها الفائقة في صناعة الحلي ونسج الزرابي والملابس الصوفية مستعينة بثقافتها الفنية الفطرية ولنا في نساء تز ناخت خير دليل على الابداع الفني الاصيل للمرأة السوسية. انها مبدعة وناقلة امينة للتراث الامازيغي الاصيل.
– المرأة الامازيغية في سوس لعبت دورا هاما في المقاومة الشعبية حيث كانت تشحن البندقية الثانية عندما يكون زوجها او اخوها او قريبها صاعدا الى البرج او الى سطح البنايات العالية ليفرغ البندقية الاولى، وكانت تحمل المؤن ليلا الى اعالي الجبال و الى داخل الخنادق لتزويد المجاهدين والفدائيين بالطعام والثياب والعتاد وكانت تشجع المجاهدين بالزغردة وتلطخ الهاربين بالحناء او بالتراب الاحمر ليكونوا مميزين بين الناس بالجبن والخيانة.
حتى انها شاركت في الحروب كمضمدة للجروح والتداوي بالأعشاب وبالنار ولنا على سبيل المثال لا الحصر معركة ايت عبد الله (1928-1934) بقيادة الحاج عبد الله زكور وهي ممن اشهر معارك الجنوب.
هذه الصور الناصعة عن التضحية والعطاء للمرأة الامازيغية في سوس جعلها تتمتع بالاحترام حتى اثناء صراع القبائل فيما بينها. ففي منطقة حاحا مثلا اذا اراد احد الاهالي ان ينتقل من مكان الى اخر فعليه ان يصحب معه بعض رجال الدين او النساء من فريق خصومه.
النسق الاجتماعي واثره في دور المرأة السوسية
المجتمع القروي الأمازيغي في سوس كغيره من المجتمعات يمتلك جملة من القيم والاعراف والتقاليد التي تميزه عن المجتمعات الاخرى وهو –كذلك- مجتمع حي متجدد يتغير بحسب تغير النسق الاجتماعي، فقد كان في الماضي مجتمعا ذي طابع اموسي (امومي) وبفعل التطورات والتحولات التاريخية تحول الى مجتمع ذكوري (بطريكي) حيث السلطة تتمركز في يد الرجل (الاب) داخل الاسرة وفي العشيرة والقبيلة الا انه رغم بطريكية المجتمع الامازيغي فإنها لم تقضي نهائيا على بعض بنى ثقافة عصر الامومة في الوعي الجمعي الامازيغي، ومن الصور والعادات التي ماتزال حاضرة من هذه البنى الثقافية عن دور ومكانة المرأة الامازيغية في سوس:
- احتفاظ المرأة الامازيغية في سوس بمكانتها ووظيفتها الرئيسية داخل الاسرة مع افساح مجال تحررها وتحركها في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية فبقيت محترمة مصانة الحقوق مع استمرار سلطتها الرمزية كربة بيت وعائلة.
- مشاركة المرأة الامازيغية في سوس في معظم الانشطة الاجتماعية والاقتصادية بشكل لا حدود له. فهي عاملة في الحقل الزراعي، وراعية ومربية للحيوانات الاليفة والدواجن، وصانعة وناسجة للزرابي والاغطية وللملابس، كل هذه الانشطة وغيرها هي مصدر رزق اسرتها الى جانب وزوجها واقربائها ومادامت هي مصدر رزق اسرتها فإنها مسموعة الكلمة ومشوراتها مستمرة في كثير من الامور الحياتية.
اما عن حياتها الخاصة فالمرأة الامازيغية في سوس لا تجدها تضع البرقع ولا النقاب المشرقي وانما تتزين بما تنسجه النساء الامازيغيات المحليات من قبيل (ادال) وهي قطعة ثوب بيضاء يغطى بها الراس وتمتد من الاعلى الى الاسفل و(تحايكت) و(تملحافت) و(القطيب) وهو قطعة ثوب حمراء تتخللها خيوط من الوان مختلفة توضع فوق الراس ويتم شده بحلي ودمالج مصنوعة من الفضة.. وهذه الالبسة والحلي ما تزال النساء والفتيات تستعملها في المناسبات والافراح والايام الخاصة وهو ما يضفي على المرأة الامازيغية زينة و وقارا.
اما حديث بعض الباحثين والدارسين الكولونياليين وغيرهم عن سفور المرأة الامازيغية فهذا ليس خروجا عن الاعراف ولا عن الآداب العامة بل هو مرتبط ارتباطا خاصا بحرية الاختلاط المباح بين الجنسين في المجتمع الامازيغي وكذلك في مواقع الحياة اليومية كلها( الحقول الزراعية- المراعي- الاسواق – المواسم الدينية- الاعراس..) انه نوع من العفة والثقة بالآخر اذ ان المرأة الامازيغية لها منزلة محترمة في المجتمع الامازيغي، كما ان هذه الحرية في الحركة والاختلاط راجع الى الثقافة (الديموقراطية) التي ورثها الأمازيغ منذ العهود القديمة.
ومنذ اكثر من خمسة عقود تغيرت العديد من العلاقات مع التغيير في نمط الحياة العامة والخاصة بفعل التغيير في نمط الاقتصاد وسياسة تدبير الشأن العام، ولاشك ان يؤثر نمط النظام الاقتصادي وسياسته ونوعية موارده في انماط العلاقات الاجتماعية تأثيرا قويا فتغيرت كثير من المفاهيم واساليب العلاقات بين افراد الاسرة الواحدة لكن مع ذلك لم يتم تهميش المرأة الامازيغية في مجتمعها المحلي بل حافظت على منزلتها ومكانتها في كل الامور العائلية والاسرية وبكل تفاصيلها فاستحقت ان تكون مفخرة للرجل في مراحل السيرورة التاريخية زوجة واما واختا .. لأنها هي اصلا كانت ملتزمة بحدودها ولا تحتاج الى من يحدد لها الحدود، كما ان ذهنية الانسان الامازيغي الاجتماعية استطاعت التكيف مع شروط الحياة الجديدة دون السقوط في مشاريع غزو العولمة او التمرغ في براثنها وقشورها.
ان المرأة الامازيغية في سوس ماضيا وحاضرا ستبقى رمزا للهوية والتراث الامازيغي الاصيل و مثالا للعطاء والتضحية ونموذجا للكائن الاسطوري القادر على التكيف مع شروط الحياة بكل الوانها وقساوتها وصعوبتها للمحافظة على مكانتها من الاندثار وهويتها من الانهيار. انها تستحق ان تحمل اسم (تمغارت وورغ).