تعيش الزاوية البودشيشية بعد وفاة الشيخ جمال الدين رحمه الله على صفيح ساخن. لأول مرة تعيش هذه الزاوية صراعا حول المشيخة، أثَّر على سمعتها، وأخرجها من أهدافها الصوفية التي تنادي بالصفاء الروحي والزهد الدنيوي.
ترك الشيخ الراحل جمال الدين البودشيشي ابنين هما منير ومعاذ. الابنان يخوضان حاليا حربا ضروسا لتزعم الزاوية، وكل واحد يبحث عمن يدعمه للانتصار على أخيه، علما أن جميع أبناء وبنات الشيخ الراحل يخوضون هذه المعركة.
في تاريخ الزاوية، كانت وفاة الشيخ يعقبها شيخ جديد يكون وارث سر المشيخة حسب طقوس الزاوية. لكن ما يقع الآن بين الأخوين منير ومعاذ، خلق واقعا جديدا في الزاوية الصوفية، أبعدها عن الصفاء الروحي، وأدخلها في الريع المادي.
لفهم ما يحدث داخل الزاوية البودشيشية، سنرجع إلى تاريخها، باعتبار التاريخ يُنير الحاضر ويستشرف المستقبل، وذلك قبل الحديث عن خلفيات الصراع وحقيقته بين أبناء الشيخ جمال الدين رحمه الله.
النشأة والجذور التاريخية والتطور المجتمعي
تُعَدّ الزاوية البودشيشية واحدة من أهم الزوايا الصوفية في المغرب المعاصر، حيث استطاعت أن تجمع بين البعد الروحي الصوفي الأصيل والانفتاح على قضايا العصر. وقد تشكلت مسيرتها عبر قرون من التراكم التاريخي والروحي، لتصبح اليوم مرجعاً دينياً وروحياً داخل المغرب وخارجه، وأقوى وأكبر زاوية في المملكة الشريفة.
ترجع أصول الزاوية البودشيشية إلى قبيلة بني زناسن في المنطقة الشرقية للمغرب، وخاصة بقرية مداغ قرب مدينة بركان. تأسست الزاوية في القرن الثامن عشر على يد الشيخ مولاي علي بن مخلوف، الذي كان فقيها عالما متصوفا. وقد ارتبطت بداية بالطريقة القادرية، ثم تطورت مع مرور الوقت لتأخذ مساراً خاصاً بها تحت مسمى “البودشيشية”.
وسبب تسمية الزاوية بـ”البودشيشية” يعود إلى لقب أُطلق على الشيخ سيدي علي بن مخلوف الذي كان يُعرف بكرمه، وإطعامه للفقراء طعاماً بسيطاً يُسمّى بالعامية “الدشيشة”، ومن هنا جاء الاسم.
عرفت الزاوية تطوراً مهماً مع الشيخ مولاي بومدين، الذي ورث المشعل عن سلفه ووسع إشعاعها في المنطقة. ثم جاء بعده الشيخ مولاي عبد القادر بودشيش، الذي أعطى للطريقة بُعدا تنظيميا أكبر، لتنتقل من مجرد زاوية محلية إلى مؤسسة روحية ذات إشعاع وطني.
لكن التحول الأكبر حصل مع الشيخ مولاي البشير بودشيش، الذي ربط الزاوية بالطريقة القادرية البودشيشية بشكل واضح، ورسّخ أُسس التربية الروحية القائمة على الذكر والصفاء والتجرد من الدنيا.
وفي القرن العشرين، برز الشيخ مولاي حمزة (1922-2017)، الذي يعد المؤسس الحقيقي لشهرة الزاوية وانتشارها العالمي.
مراحل تطور الزاوية وطنيا وعالميا:
من زاوية تطور الزاوية البودشيشية، يمكن من الناحية المنهجية، الحديث عن مرحلتين مرت منهما الزاوية. مرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس التي تحدثنا عنها سابقا. هذه المرحة ارتبطت بمؤسس الزاوية في القرن الثامن عشر على يد الشيخ مولاي علي بن مخلوف الذي ربط الزاوية بالطريقة القادرية.
هذه الطريقة أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني في مدينة بغداد، وبعد وفاته انتشرت الطريقة القادرية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي: العراق، الشام، المغرب، السودان، الهند، وحتى جنوب شرق آسيا. وهو ما يعني تأثر الزاوية بالتصوف المشرقي قبل تحديد هويتها المغربية كطريقة بودشيشية.
خلال هذه المرحلة، كانت الزاوية تقوم على أساس مبادئ روحية وفكرية أبرزها:
-الذكر الجماعي والفردي كوسيلة للتزكية.
-صحبة الشيخ باعتبارها ركناً أساسياً في التربية الصوفية.
-التربية على الأخلاق، مثل الصدق، التواضع، المحبة، والإيثار.
-خدمة المجتمع عبر نشر قيم السلم والتسامح والوسطية.
وتتميز الزاوية باحتفالاتها الروحية وخاصة المولد النبوي الشريف، الذي يجتمع فيه آلاف المريدين من مختلف بقاع العالم في مداغ، حيث يعيشون أجواء من الذكر والروحانية. أنشطة الزاوية لم تقتصر على البعد الروحي فقط، بل تعدته إلى إنشاء مؤسسات ثقافية وعلمية، مثل مؤسسة الملتقى العالمي للتصوف، الذي يُنظِّم سنوياً مؤتمرات تجمع الباحثين والمفكرين من مختلف الدول، لمناقشة قضايا الفكر والدين في سياق الحداثة والعولمة.
كما أن الزاوية تلعب دوراً مهماً في تعزيز صورة الإسلام الوسطي المعتدل، خاصة في ظل التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي مع موجات التطرف.
المرحلة الثانية انطلقت مع الشيخ سيدي حمزة بن العباس الذي يُعد من أبرز مشايخ الزاوية في العصر الحديث. في عهده ذاع صيت الزاوية البودشيشية في المغرب وخارجه، وجمع حوله الآلاف من المريدين داخل المغرب وخارجه (أوروبا، إفريقيا، أمريكا).
ففي عهده عرفت الزاوية انفتاحاً واسعاً، حيث أصبحت تستقطب الآلاف من المريدين داخل المغرب وخارجه، خصوصاً من أوروبا وأمريكا. وقد تميز الشيخ حمزة بخطابه الروحي البسيط والعميق، الداعي إلى المحبة والتسامح، مما جعل الطريقة البودشيشية رمزاً للسلام الروحي.
ليس هذا فحسب، في عهد سيدي حمزة استطاعت الزاوية، استقطاب رجال الأعمال والمستثمرين والمدراء والوزراء ورجال السلطة. فلم تعد الزاوية تقتصر على المريدين من الفقراء فحسب، بل أصبح عيلة القوم ونخب الدولة والمجتمع ورجال الاقتصاد من مريديها، وهو ما أدخلها في عالم المال والأعمال والسياسة. خلال هذه المرحلة، انتقلت الزاوية من فضاء الفقراء والدراويش، إلى أغنى زاوية بالمال والممتلكات والعقارات.
هذه الوضعية الجديدة للزاوية، جعلت الصفاء الروحي المعروف في التصوف، يتراجع أمام ملذات الدنيا التي فتحت أبوابها مشرعة أمام الزاوية ومسؤوليها. في هذه المرحلة كذلك، اقتربت الزاوية من الدولة، واستفادت من الدعم والهبات بسخاء كبير.
هذه الوضعية الجديدة للزاوية، أخرجتها من فضاء يبحث فيه مريدوها عن الصفاء الروحي والتجرد من ملذات الدنيا، إلى فضاء غارق في الريع جعله يلامس قضايا سياسية، كان أبرز تجلياته المسيرة التي نظمتها الزاوية لدعم التصويت بنعم على دستور 2011.
خلفيات صراع الأبناء على مشيخة الزاوية:
عندما كانت الزاوية تهتم بالصفاء الروحي وتتعامل بالزهد الصوفي أمام ملذات الحياة، كان سر شيخ الزاوية يتم توريثه بسلاسة وبحكمة صوفية. هكذا تعاقب على مشيخة الزاوية بعد مؤسسها الشيخ مولاي علي بنمخلوف، سيدي محمد بن العربي بنمخلوف، ثم الشيخ سيدي المختار بن محمد. وبعده تحمل مسؤولية الزاوية سيدي أبو مدين بن المختار ثم الشيخ سيدي الحاج العباس بن المختار. ثم سيدي حمزة بن العباس وأخيرا سيدي جمال الدين القادري بودشيش.
في هذه المرحلة التي كانت فيها الزاوية متشبثة بروح التصوف، كانت المشيخة تنتقل بشكل سلس وبحكمة صوفية. لكن بعد وفاة الشيخ جمال الدين، وبعد تحول الزاوية إلى الاغتناء المادي، والتقرب من الدولة والسلطة، عرفت الزاوية هذا الصراع حول المشيخة والذي لم يقتصر على الإخوة الغريمين منير ومعاذ، بل انخرط كل أبناء وبنات الشيخ الراحل في هذا الصراع، البعيد كل البعد عن أهداف الزاوية وعن فلسفة التصوف.
صراع منير ومعاذ، يعكس الوضعية الجديدة التي أصبحت عليها الزاوية الصوفية، حيث انتقلت من الدعوة للصفاء الروحي والزهد في الحياة وخدمة الفقراء من المريدين، إلى الانغماس في ملذات الحياة ومتعة الأموال والتقرب من السلطة ورجال الأعمال وأصحاب النفوذ.
ظاهريا، يبدو أن منير ومعاذ يمثلان الطريقين الذين أصبحا يسكنان الزاوية: طريق الصفاء الروحي ويمثله الابن معاذ، وريع المال ويمثله الابن منير. لذلك نجد فقراء المريدين يدعمون الابن معاذ لأنه قريب منهم ويمثل في نظرهم أسلوب الشيخ الراحل. وطريق ملذات الحياة وريع الأموال ويمثله الابن منير المدعوم بباقي إخوته نساء ورجالا.
في الأخير نقول إن تاريخ الزاوية البودشيشية هو تاريخ من الروحانية المغربية الصوفية، التي استطاعت أن تجمع بين العمق الصوفي والانفتاح العالمي، كما أنها لم تقتصر على التربية الروحية، بل أصبحت كذلك مدرسة فكرية تسعى إلى نشر قيم التسامح، والسلام الداخلي، والمحبة بين البشر. واليوم تعيش الزاوية أمام مفترق طرق، إما الرجوع إلى الصفاء الروحي والتشبث بالزهد الصوفي، أو الانغماس في ريع الملذات، وهو نفق يؤدي إلى طريق واحدة اسمها النهاية.
سعيد الغماز-كاتب وباحث

التعاليق (0)