هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه أكادير 24.

الجيل الرقمي(Z) وبداية وعي جيل سياسي متحرر من قيود المجتمع ومؤسساته 

كُتّاب وآراء

ذ. محمد بادرة

الأنصات مفتاح الثقة وردم الهوة بين الأجيال

اهتم كثير من علماء الاجتماع السياسي بدراسة الوعي السياسي عند الجماعات المختلفة وخصوصا الوعي الطبقي والوعي السياسي لكنهم لم يعيروا كثيرا من الاهتمام للوعي الجيلي، والى وقت قريب لم يستخدم علماء السياسة مفهوم (الجيل السياسي) الا كمدخل لدراسة وتفسير حراك الشباب المنخرط في عالم السياسة وخصوصا الشباب الطلابي الثائر على الأوضاع السياسية والاجتماعية ومواقفه الرافضة من المشاركة في الحياة السياسية القائمة غير أن هؤلاء الباحثين همشوا الأبعاد الايديولوجية والفلسفية التي تلقي بظلالها الكثيفة على دراسة الأجيال وأولوا اهتمامهم للجوانب العملية لمفهوم (الجيل) ومؤشراته الأساسية من قبيل الآثار والعمليات الجيلية وتأثيرهما في الحركات السياسية والاجتماعية.

ويعد مفهوم (الجيل) مفهوما أساسيا في دراسة فئة عمرية (الشباب) كفئة اجتماعية لها خصوصيات بيولوجية ونفسية وثقافية.. وكلمة(جيل génération)هي ذات أصل اغريقي ومصطلح أساسي في الفلسفة اليونانية حيث الإغريق القدامى كانوا واعين بأن العلاقة بين الأعمار ليست بالضرورة متناغمة وتفطنوا للنتائج الاجتماعية والسياسية للتعارض أو الصراع بين الأجيال. وكان أفلاطون يرى في الصراع الجيلي قوة محركة للتغيير الاجتماعي وأرسطو يفسر الثورات بالصراع بين الأبناء والآباء وليس صراعا- فقط – بين الطبقات أي أن أفلاطون وأرسطو كلاهما يعتبران صراع الأجيال محركا للتاريخ الإنساني وكلاهما يؤكدان صراع الأجيال كعامل مستقل أساسي في التغيير السياسي أي أن صراع الاجيال هو عامل الهدم أو البناء للنظم السياسية الجديدة.

في بداية القرن العشرين اكتسح مفهوم (الجيل) الفلسفة الغربية نتيجة للتحولات التاريخية التي شهدتها أوربا والتي كانت قد أفرزت حركات احتجاجية سياسية واجتماعية قادها جيل الشباب خصوصا الطلبة والتلاميذ. ويعتبر كتاب (مشكل الأجيال) للمفكر الألماني (كارل مانهايم) من بين أهم المراجع الفكرية التي تناولت مفهوم (الجيل) كوضعية متجانسة للشرائح العمرية المتقاربة في فضاء اجتماعي تاريخي، وحدد مجموعة من العوامل البنيوية التي تشكل وجود وحضور جماعة (الجيل) في الفضاء الاجتماعي والسياسي والثقافي، ومنها:  

  • ظهور فاعلين ثقافيين جدد من الشباب واختفاء فاعلين ثقافيين “شيوخ” من النخبة التقليدية وأنه مع ظهور هذا الجيل الجديد تختفي مكتسبات تراكمت وفي المقابل تظهر أزمات جديدة تفتح الطريق لهذه الأجيال جديدة.
  • اختفاء فاعلين سياسيين واجتماعيين طال خلودهم وظهور فاعلين سياسيين واجتماعيين جدد مما يجسد عملية التشبيب الاجتماعي للمجتمع أي الانطلاق بطاقة حيوية جديدة لبناء مصير جديد مبني على تجارب جديدة في اطار اجتماعي وفكري حديث يربط بين أفراد جيل واحد.
  • التناقل المستمر للإرث الثقافي وهو خاصية أساسية في العلاقة بين الأجيال وبالأساس هي علاقة تفاعلية بين الأب والأبن أو بين جيل الشيوخ وجيل الشباب. يقول (كارل مانهايم) في هذا الشأن (ليس المعلم فقط هو الذي يعلم التلميذ، التلميذ أيضا يعلم المعلم …ان الأجيال يتأثر بعضها ببعض باستمرار).
  • استمرار تغير الأجيال هو قانون طبيعي، والتجديد والتطور الانساني مرتبط باستمرار بتغير الأجيال (فلو لم تكن هناك أجيال جديدة في السياق الاجتماعي لاستحال التجديد ولو لم يكن هناك تواصل لما أمكن تفادي الصدام..)- كارل مانهايم-

وارتباطا بتحولات الوعي السياسي للجماعات شهدت عشرية الستينات أحداثا تاريخية فارقة مثلتها انتفاضة الشباب الطلابي في فرنسا (ضد السلطة والمجتمع الاستهلاكي) والاحتجاجات العنيفة للنخبة الجديدة وللشباب الأمريكي (ضد حرب الفيتنام) أما في المغرب فقد عرفت فترة الستينيات احتجاجات طلابية عنيفة في الجامعات والكليات والمدارس العليا… وغيرها من الأحداث والاصطدامات التي زادت من الاهتمام بموضوع الأجيال وانكباب علماء الاجتماع والسياسة والفلاسفة على دراسة السلوك السياسي للشباب المعاصر في محاولة لتفسير وتحليل هذه الحركات والجماعات التي أعقبت هذه الفترة من الأحداث السياسية العنيفة، وركزت أغلب هذه الدراسات على رفض الشباب للبيروقراطية التي تتسيد العمل السياسي والحزبي والنقابي، كما رصدت التحولات التي طرأت على البنية الفكرية العميقة للجيل الجديد في طروحاته ورؤاه الجريئة حول قضايا محاربة الفساد واحترام الحقوق الأساسية وقيام دولة المؤسسات وإصلاح التربية والتعليم وتعميم الصحة للجميع وتوفير الشغل والمحافظة على البيئة…

وفي السنوات القريبة الأخيرة انبثقت موجة جديدة من جيل الشباب أو النسخة المعدلة من الجيل السياسي اكتسحت الفضاء الإعلامي والرقمي ويعرف باسم (جيل Z) وهو جيل مهووس الى حد التطرف بالثورة الرقمية، جيل رافض لكل ما هو سائد وقائم وثابت، وغذا لكثرة انقطاعه عن الواقع الفعلي وادمانه الواقع الافتراضي أن نحث لنفسه مفهوما رقميا (جيل Z) حتى طغى هذا المفهوم -(جيلZ)- على كافة المفاهيم المتداولة في الفضاء الإعلامي السياسي وأصبح مقترنا بالتغييرات الاجتماعية والاحتجاجات السياسية لكن التناول العلمي لهذا المفهوم لم يتم اخضاعه لسياقات أخرى ثقافية وفلسفية وايديولوجية.

يحيل المصطلح (جيلZ) الى الأفراد المولودين بين عامي 1997 و 2012 وهي فترة تميزت بالانتشار الواسع للهواتف الذكية وتطور وسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبحت جزءا أساسيا من الحياة اليومية بحيث أصبح التواصل الرقمي والوجود الافتراضي جزءا لا يتجزأ من تكوينهم الاجتماعي والثقافي، ومع هذا الحضور الافتراضي الكثيف صار الأنترنيت بالنسبة لجيل (Z) فضاء متكاملا للتواصل والنقاش والتعارف وبناء مجموعات عمل أو جماعات احتجاج ضد كل سياسة منحرفة أو ممارسة بيروقراطية. ويعرف على أنه (جيل رقمي أصلي) اذ لم يعرف ولم يعش عالم ما قبل الأنترنيت بل هو جيل ولد وسط بيئة تقنية متسارعة غيرت له أنماط السلوك والتربية والتواصل الاجتماعي بشكل جذري وهو ما سمح لهذا الجيل من توسيع دوائر الاتصال والتواصل مع مختلف شرائح المجتمع محليا وعالميا فظهر منهم مؤثرون لهم جمهور واسع ومتتبعون على منصات التواصل الاجتماعي، يستخدمون شعبيتهم للتأثير في آراء وسلوكيات الآخرين، يلامسون القضايا الاجتماعية والسياسية بجرأة سياسية ولغة جديدة .. انه جيل سياسي جديد متمرد وثائر على النخب الحزبية وعلى المؤسسات السياسة التقليدية وتجمعهم قواسم مشتركة في الفضاء الرقمي سواء في آرائهم أو مواقفهم ويتقاسمون فيما بينهم عناصر أساسية منها:

  • أولا: أنهم ولدوا جميعا في نفس السياق التاريخي والثقافي.
  • ثانيا: أنهم يشعرون بالاشتراك في نفس المصير الاجتماعي والتاريخي.
  • ثالثا: أن الفضاء الرقمي يعتبر جزءا أساسيا من تكوينهم الاجتماعي والسياسي والثقافي.

كلها عناصر تشكل وتصوغ وعي وادراك أفراد هذا الجيل وتحدد رؤيتهم للعالم بعيدا عن الخلفيات العرقية والثقافية ورفضا لكل موروث ثقافي وسياسي وكل القيم التقليدية المحافظة، جيل معارض للنخب وللأحزاب التقليدية التي “خانت” الممارسة الديموقراطية وأقصت الأجيال القادمة من قيادة سفينة الأحزاب.. لذا يمارسون الضغط “الرقمي” والاحتجاج السياسي على هذه المؤسسات الحزبية والثقافية لتحريك عجلة التغيير تدبيرا وتفكيرا وهو ما وسع الفجوة التي تفصل ثقافة الجيل الرقمي عن ارث الآباء والشيوخ وأحدثت خللا وتمزيقا في النظام الاجتماعي القائم وأزمة في الممارسة السياسية القائمة.

يرى هذا الجيل الرقمي أن التواصل والتفاهم مع جيل “الشيوخ” صعب ومستحيل ولذا يتخذ مواقف سلبية من العملية الانتخابية ومن المشاركة السياسية، يرفضون النظام (الأوليغارشي) للأحزاب ويرفضون النخب السياسية والحزبية ويحجمون عن الاشتغال داخل المؤسسات الحزبية والنقابية والثقافية القائمة، يختارون منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الفايسبوك وتيك توك والأنستكرام لإرسال رسائلهم السياسية والاجتماعية والثقافية مما سمح لهم بتشكيل نماذج جديدة للسلطة والتأثير .. وسيكون من الخطأ القول أنه لم يعد هناك شباب مغربي مقتنع بقضايا المجتمع والأمة لكن حتما هناك جزء مهم من هذا الجيل الجديد لهم قناعات سياسية جديدة ولهم انشغالات وحاجيات اجتماعية وثقافية وبيئية يدافعون عنها في منصات التواصل الاجتماعي بمختلف تلاوينها ويرددون شعاراتها في المنصات الرقمية وفي التجمعات والمسيرات الاحتجاجية من قبيل اصلاح التعليم والصحة وتوفير الشغل ومحاربة الفساد.. هم جيل من الشباب اكتسبوا وعيا سياسيا جديدا متحررا من قيود المجتمع ومؤسساته ولم يفقدوا الأيمان في السياسة وإنما في السياسيين.

شبيبات الأحزاب الوطنية التي ناضلت في صفوف التنظيمات الحزبية الوطنية اليسارية منها والمحافظة وكانت تقول عن نفسها أنها ولدت من رحم الحركة الوطنية لم تعد لديها اليوم نفس قناعات الماضي واختار بعضهم أن يمارسوا التفكير النقدي والوعي اللحظي مستخدمين كل وسائل التكنولوجيا الإعلامية في نقدهم وانتقادهم للبيروقراطية التي تتسيد العمل السياسي داخل الأحزاب الوطنية فانتفضوا على الشخصيات السياسية والحكومية التي طال خلودها في توابيت الأحزاب والنقابات ضاربة الحصار على الشباب لإعاقة وصولهم الى المواقع القيادية في الحزب والنقابة وفي المؤسسات التمثيلية.

شباب اليوم هو جيل سياسي “مرقمن” لكنه جيل رافض لكل ما يطبخ في “كوزينا” الأحزاب من (مأكولات) سياسية فاسدة ومنتهية الصلاحية أو من طقوس قروسطية تقوم على الطاعة والانضباط لسلطة الزعيم والقائد.

لقد ابتعد الجيل السياسي الحالي عن الأحزاب التقليدية وخاصم المجتمع ومؤسساته التقليدية واختار الشارع للاحتجاج ضد تهميش التعليم واهمال الصحة وانتشار الفساد وفضح جمود وخلود الطبقة السياسية واستبدادها، يقول طوكفيل ” المستبد هو الآخر” أي أن الميكانيزمات التي تهيكل الأحزاب المغربية لا تختلف عن ميكانيزمات المجتمع وهي ميكانيزمات مغلقة في وجه الشباب، هناك مشكل دمقرطة المجتمع حيث أننا غالبا ما نهتم بدمقرطة الدولة ونغفل الجانب الآخر وهي مسألة دمقرطة المجتمع ومؤسساته، فشبابنا أصيب (بخيبة الأمل من جراء طريقة عمل الأحزاب السياسية وغياب التناوب فيها على المسؤولية وعلى جميع المستويات) وهي أحزاب أبوية تعيد انتاج نفس الأشكال المهيمنة وسيكون من غير المنطقي اعتبار الأحزاب جزرا معزولة لأنها هي نفسها تعيد انتاج الأوضاع الفاسدة داخل المجتمع وبشكل عام يمكن القول أن هناك هيمنة لثقافة “الشيخ” التي تقف سدا منيعا أمام وصول “الدم الجديد ” الى كل أعضاء الجسم الحزبي  الوطني (د. عبد الله ساعف),

شباب اليوم يحمل وعيا جديدا ويناضل بأدوات جديدة ليوصل رسالة جديدة تطالب المؤسسات الحكومية والحزبية والمجتمعية أن تصغي لصوتهم لا أن تكمم أفواههم .. ولم يختاروا تكنولوجيا الإعلام والاتصال الرقمي الا لمقاومة الصمت والتواطؤ والاقصاء  ووسائل التواصل في نظرهم هي أداة لتغيير واقعهم ومجتمعهم.

فهل نجحنا في تذويب أزمة الثقة بين الأجيال المتعاركة اجتماعيا وسياسيا؟

ان سوسيولوجيا جيل الشباب ليست خطابا عن هذه الفئة بقدر ما هي مجال للأصغاء وفضاء لحديث الشباب عن أنفسهم وعن محيطهم والعالم الذي يعيشون فيه فهم أقدر على التعبير عن طموحاتهم ومشاغلهم وواقعهم ويحفظ تاريخنا السياسي القديم مثالا ناصعا عن قيمة الإنصات كآلية للاستقرار والإصلاح الاجتماعي والسياسي. في احدى الروايات التاريخية الإسلامية القديمة يروي أنه لما استخلف عمر بن عبد العزيز خليفة للمسلمين قدمت له وفود من كل البلاد العربية والإسلامية وكان بينها وفد أهل الحجاز فاشرأب منهم غلام للكلام فقال له عمر (يا غلام ليتكلم من هو أكبر منك) فقال الغلام (يا خليفة المسلمين انما المرء بأصغريه قلبه ولسانه فاذا منح الله عبده لسانا لافظا وقلبا حافظا فقد أجاد الاختيار ولو أن الأمر بالسن لكان هنالك من هو أحق بمجلسك منك ) فقال عمر (صدقت، تكلم يا غلام، فهذا هو السحر الحلال)

الإنصات مفتاح الثقة وردم الهوة بين الأجيال

لا يمكن لأي مجتمع أن يحافظ على تماسكه واستمراره وقوته اذا انقطعت لغة التواصل بين طبقاته وفئاته وأجياله، والإنصات السياسي والاجتماعي والتربوي والثقافي يعني الاعتراف بالآخر وخصوصا الشباب حتى يكونوا شركاء في البناء والإصلاح لا قنابل موقوتة أو أصوات احتجاج في الشوارع.

على السياسيين والمسؤولين الحكوميين أن لا يغمضوا عيونهم عن واقع الشباب أو يذرفوا دموعهم الكاذبة على أوضاعهم أو يصموا آذانهم أو يحاصروا الشباب بالمغالطات أو شيطنة افكارهم أو تخوين مواقفهم أو اغتيال آرائهم أو تشويه نضالهم فالخلل في الاحزاب وفي المؤسسات لا في الشباب.

الإنصات هو أول خطوة لبناء الثقة بين الأجيال حتى لا يعلو صوت الاحتجاج على ثقافة الإنصات… انه لا بد أن تسود ثقافة الأصغاء للرأي الآخر لتكون رافعة للبناء لا معولا للهدم.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً