هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه أكادير 24.

الهدم رسالة وإعلان عن نهاية زمن التراخي وبداية عهد المحاسبة لحماية الأملاك العامة

كُتّاب وآراء

لم يعد تطبيق القانون ،خاصة في مجال التعمير، عنوان للتراخي الإداري في بعض الحلات، ولا مجرد إجراء مرتبط بضغط الرأي العام، بل أصبح ضرورة وجودية لهيبة الدولة وصدقية مؤسساتها. فحين تمتد الأيادي إلى الملك العام وتتحول رخصة الإنتداب أو الموقع الانتخابي و السياسي إلى غطاء للإستيلاء على الأملاك العامة قبل الخاصة ، تكون الدولة أمام إختبار وجودها لا أمام مجرد مخالفة عمرانية وقانونية . بل يصبح الهدم والتطبيق القانوني لمسطرته، متجاوزا لمعناه المادي إلى عميقه الرمزي ، أي إعلان صريح بأن زمن الإفلات من العقاب قد أنتهى، وأن الدولة إستعادت قدرتها على فرض القانون على الجميع بلا إستثناء ولا إنتقاء ومحسوبية.

غير أن الحقيقة الأعمق، تكمن في أن مواجهة التجاوز بعد وقوعه ليست إلا نصف المعركة. فالمحاسبة لا تكتمل بهدم المخالفة أو تغريم المخالف وإجماع الحالة الى ماكانت عليه قبل الاعتداء المادي ، بل تبدأ من مساءلة كل من سمح بحدوثها. فالبناء غير المشروع لا يقوم إلا على أرضية من الصمت الإداري والمسطري، و من التواطؤ غير المعلن و من التهاون في الرقابة. إن ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما نص عليه دستور 2011 يقتضي أن يمتد السؤال من صاحب المخالفة إلى الجهة التي تراخت في تطبيق القانون أو تغاضت عن فرضه، لأن التهاون في حماية الملك العام خيانة للثقة العامة، والتي أولاها الدستور للمسؤولين الإداريين والمنتخبين على حد سواء وكل في حدود إختصاصه.
ومن خلال ماسبق ، فإن الحزم في الهدم يجب أن يقترن بحزم مماثل في بناء منظومة رقابية إستباقية تحول دون تكرار السيناريوهات ذاتها وتراعي التطبيق السليم للقانون . فليس من الحكمة أن تكتفي الدولة بإعلان القوة بعد وقوع الإنتهاك والخرق المسطري، بل المطلوب الحرص على العمل السليم لمؤسسات الرقابة والتتبع دون ضغط وإكراه، وتحصينها بقوانين وآليات تجعل من استباحة الملك العام أمر مستحيل وغير قابل لأية مزايدة أو تساهل ، قبل أن يصبح الأمر واقعا مستباحا لأصحاب النفود. فالرقابة الفعالة والتتبع الميداني والشفافية الرقمية في منح الرخص ومراقبة التنفيذ، هي الركائز التي تضمن أن يظل القانون حيا وفعالا لا مجرد نص جامد ينتظر الخرق ليصحو من غفوته .
إن الدولة التي تهدم ما شيد على أنقاض القانون تعلن عودة الهيبة، لكنها تحتاج في المقابل إلى إعلان آخر، وهو عودة العدالة الإجرائية التي تضمن المساواة بين جميع المواطنين، فلا يهدم على الفقير ما يستثنى منه الغني وصاحب المقام، ولا يتغاضى عن تجاوزات النفوذ بينما يزج بالبسطاء في دوامة العقوبات. فالمشروعية لا تكتسب بالقوة بل بالعدل ، ولا تترسخ بالردع وحده، بل بالإنصاف الشامل في التطبيق المجرد و السليم للقانون .

ختاما، إن المعنى الأسمى لعودة هبة الدولة في نفاذ القانون لا يتحقق بالجرافة التي تهدم، بل بالمؤسسة التي تراقب و بالقانون الذي يطبق بصرامة وموضوعية. فالهدم قد يرمم صورة الدولة، لكنه لن يبني ثقة المواطن إلا حين يرى أن القانون يطال الجميع، وأن السلطة صارت تعني الخدمة لا الإمتياز. فحين تتوازن العدالة مع الحزم، وتتحول المحاسبة من رد فعل إلى فعل مؤسس، يمكن حينها القول إن الدولة لم تهدم فقط بناء مخالف للنظم والقوانين ، بل أعادت تشييد أسسها على صرح من الشرعية والإنصاف.

د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً