في مدينة ليبورن الفرنسية، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من أرض الوطن، توهجت من جديد شعلة الوطنية في قلوب أبناء الجالية المغربية، خلال ندوة فكرية متميزة نظمتها جمعية (Camal du Libournais) بشراكة مع القنصلية العامة للمملكة المغربية في بوردو، تحت شعار “المسيرة الخضراء: ملحمة، أمة، ورؤية”.
اللقاء الذي جمع مساء الخميس مؤرخين ومثقفين وفاعلين جمعويين وأفرادًا من الجالية المغربية المقيمة بفرنسا، لم يكن مجرد حدث ثقافي، بل كان تعبيرًا عن وفاء عميق للوطن، واستحضارًا لملحمة وطنية ما تزال تنبض في ذاكرة المغاربة بعد خمسين عامًا من انطلاقتها المجيدة.
– المسيرة الخضراء.. من حدث تاريخي إلى رؤية متجددة
في مداخلته الغنية، تناول المؤرخ جامع بيضا مختلف الأبعاد التاريخية والسياسية والإنسانية للمسيرة الخضراء، معتبرًا إياها لحظة تأسيسية في بناء المغرب الحديث، ومحطة نادرة جسدت التلاحم بين العرش والشعب دفاعًا عن الوحدة الترابية للمملكة.
وأوضح بيضا أن هذه المسيرة لم تكن مجرد استرجاع للأقاليم الجنوبية، بل كانت تجسيدًا لروح جماعية أعادت تعريف مفهوم المواطنة، وأسست لوعي وطني متجذر في الذاكرة الجماعية للمغاربة داخل الوطن وخارجه.
– الدبلوماسية المغربية.. استمرار لنهج المسيرة
من جهتها، أكدت القنصل العام للمملكة في بوردو، السيدة نزهة الساهل، أن تخليد الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء يأتي في سياق دولي يتسم بتعزيز الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، وهو ما يشكل ثمرة للرؤية المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي جعل من الدبلوماسية المغربية امتدادًا طبيعيًا لقيم المسيرة الخضراء.
وأبرزت أن هذا الزخم الدبلوماسي لا يمكن فصله عن الدور الفاعل الذي تضطلع به الجالية المغربية بالخارج، التي أصبحت عنصرًا أساسيًا في الدفاع عن مصالح الوطن، من خلال الترافع الإيجابي والتعريف بعدالة القضية الوطنية في فضاءات النقاش الأوروبي والدولي.
– مغاربة العالم.. سفراء الوطن وصوت الانتماء
الندوة شكلت أيضًا مناسبة للاحتفاء بمغاربة العالم، الذين يجسدون الوجه المشرق للمواطنة المتجددة.
فقد عبّرت ادريسية أزلوني، رئيسة الجمعية المنظمة، عن فخرها العميق بتعبئة الجالية المغربية حول قيم الوطنية والوحدة، مؤكدة أن المغاربة المقيمين بفرنسا «يعيشون المسيرة الخضراء في وجدانهم»، ويحملونها معهم أينما حلّوا، كرمزٍ للإيمان بالوطن والوفاء لرايته.
كما تميز اللقاء بتكريم عدد من الفاعلين الجمعويين اعترافًا بإسهاماتهم في دعم قضايا الوطن، إضافة إلى تكريم رمزي لمشاركين في المسيرة الخضراء من أبناء الجالية، في لحظة مؤثرة جسدت عمق الصلة بين الذاكرة الوطنية والوجدان الجمعي لمغاربة الخارج.
– تحليل ودلالة
إن ما شهدته ليبورن لا يمكن قراءته كحدث محلي عابر، بل كرسالة رمزية تؤكد أن المسيرة الخضراء لم تتوقف عند حدود الصحراء، بل تمتد اليوم عبر قلوب وضمائر المغاربة في المهجر.
الجالية المغربية بالخارج باتت تمثل قوة ناعمة للمغرب، تجمع بين الانتماء والالتزام، وتساهم في ترسيخ صورته كبلد للتعايش والاستقرار والاعتزاز بالتاريخ.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية مثل هذه اللقاءات في ربط الأجيال الجديدة من مغاربة العالم بجذورهم الوطنية، وتذكيرهم بأنهم جزء أصيل من المسار التاريخي للمملكة.
– خاتمة
تُظهر ندوة ليبورن أن المسيرة الخضراء ليست مجرد ذكرى وطنية تُستعاد سنويًا، بل هي مشروع مستمر في الوجدان المغربي.
فمغاربة العالم، بارتباطهم العميق بوطنهم الأم، يجسدون استمرار تلك المسيرة في بعدها الرمزي والإنساني، ويثبتون أن الوطن يعيش في القلوب، مهما ابتعدت المسافات.
وهكذا تظل الجالية المغربية بالخارج مرآة صادقة لهوية وطنها، وامتدادًا طبيعيًا لمسيرة البناء والوحدة التي أطلقها الآباء، ويواصلها الأبناء بعزم وثبات.


التعاليق (0)