في زمن الرقمنة… حين انتصرت التفاهة على المعرفة

العلوم والتكنولوجيا

عبدالله بن عيسى

كنا نحلم أن تكون الثورة الرقمية بداية نهضة فكرية جديدة، وأن يفتح الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أمام الإنسان أبوابًا واسعة نحو المعرفة والابتكار والانفتاح على العوالم المختلفة. كنا نتصور أن التكنولوجيا ستمنح الكلمة وزنها الحقيقي، وأن الرقمنة ستقرّب الإنسان من المعلومة والعلم والحقيقة. لكن الذي حدث هو العكس تمامًا.. فقد انقلبت الأداة على الغاية، وأصبحت التكنولوجيا نفسها ميدانًا للفوضى والسطحية، وسقطت المعرفة في بحر من التفاهة يصعب الخروج منه.

اليوم، لم تعد مواقع التواصل منصاتٍ لتبادل الأفكار أو النقاشات العميقة، بل تحولت إلى مسرحٍ لعرض الذات وترويج الوهم. صارت “الإعجابات” معيارًا للنجاح، و“المتابعون” مرادفًا للقيمة الفكرية، حتى غابت الفكرة وتقدّم صاحب الصورة. فبدل أن نحتفي بالمفكرين والعلماء والمبدعين، أصبحنا نحتفي بالمؤثرين وصانعي المحتوى السطحي الذين لا يقدّمون شيئًا سوى التسلية العابرة. إننا نعيش عصرًا جديدًا يمكن وصفه بـ “عصر الانحطاط الرقمي”، حيث تُقاس الشهرة بعدد المشاهدات لا بعمق الأفكار.

في هذا الزمن، لم يعد العقل ينتج المحتوى، بل المحتوى هو الذي يشكّل العقول. الخوارزميات ، تلك المعادلات الرقمية الباردة التي تدير عالم التواصل ، لا تكافئ العمق ولا تشجّع البحث، بل تروّج لما يثير الانفعال اللحظي ويزيد من زمن المشاهدة. وهكذا انتصرت العاطفة على العقل، والضجيج على الفكرة، والسرعة على التأمل. إننا أمام مجتمع يستهلك المعلومة دون أن يهضمها، يقرأ العناوين دون المقالات، ويتفاعل مع الصدمة لا مع الفكرة.

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: أين الخلل؟ ولماذا تراجعنا إلى هذه الدرجة من الانحطاط المعرفي؟
الجواب معقد، لكنه يبدأ من المدرسة وينتهي في الفضاء الافتراضي. لقد فشلت منظوماتنا التربوية في تهيئة جيلٍ قادر على التفكير النقدي، فخرج من المدارس والجامعات جيلٌ بارع في النقر على الشاشات لكنه عاجز عن قراءة الواقع. في المقابل، لم تنجح النخب الثقافية في إيجاد لغة جديدة تتواصل بها مع هذا الجيل، فتركت الساحة للسطحيين والباحثين عن الشهرة السريعة. وبين المدرسة الصامتة والمثقف المنعزل، تسلّلت “التفاهة” إلى صدارة المشهد بلا مقاومة.

ولا يمكن إنكار مسؤولية الإعلام التقليدي الذي ساهم بدوره في نشر النموذج الرديء، فبدل أن يصنع الوعي صار يلهث وراء ما يثير الجدل ويجلب الإعلانات. تماهى مع منطق السوق بدل أن يكون ضمير المجتمع، فاختلط الرأي بالخبر، وتحوّل الجدّ إلى عرض، والنقاش إلى “ترند”.

إن أخطر ما في هذه المرحلة ليس انتشار التفاهة فحسب، بل تطبيعها.. أي أننا لم نعد نستنكرها كما في السابق، بل صارت جزءًا من حياتنا اليومية. نستهلكها في الصباح، نضحك عليها في المساء، ثم نعيد نشرها ونحن نعلم أنها لا تستحق. أصبحنا نعيش في ما يشبه “غرفة صدى ضخمة”، يسمع فيها الناس فقط ما يريدون سماعه، ويشاهدون فقط ما يوافق ميولهم، فاختفى النقاش العمومي، وتفككت الفضاءات المشتركة التي كانت تصنع الوعي الجمعي.

لكن وسط هذا الضجيج، ما زال هناك أمل. فالتاريخ يعلّمنا أن كل عصر من عصور الانحدار كان يحمل في طيّاته بذور نهضة جديدة. ربما تكون هذه الفوضى الرقمية لحظة مخاض مؤلمة قبل ميلاد وعي جديد، بشرط أن ندرك خطورة ما يحدث. الحل لا يبدأ من إغلاق المنصات، بل من إعادة الاعتبار للعقل، وللتربية، وللقراءة، وللنقد. يجب أن نعيد التوازن بين المعلومة والمعرفة، بين التقنية والقيمة، بين السرعة والمعنى.

لقد آن الأوان أن نعيد السؤال الجوهري.. هل نريد أن نكون مجتمعًا يستهلك الصور أم يفكّر في المعاني؟ أن نكون جيل “الترند” أم جيل “الفكرة”؟ فالمستقبل لن يُصنع بالضجيج، بل بالوعي، ولن يُبنى بالمؤثرين، بل بالمفكرين.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً