بقلم : البراق شادي عبد السلام
الخطاب الملكي السامي بمناسبة السنة الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشر حمل رسائل مباشرة إلى كل من يهمه الأمر بضرورة الإنفتاح على جيل جديد من البرامج التنموية، مقدماً إطاراً سياسياً ومنهجياً مفصلاً للمرحلة الختامية للولاية البرلمانية. حيث تجاوز الخطاب الملكي لحظة التقييم السنوي للعمل البرلماني و الحكومي ليصبح خارطة طريق إجرائية ترفع سقف التوقعات وتلزم جميع الفاعلين بترجمة الوعود إلى إنجازات ملموسة، خاصة في مجال العدالة الاجتماعية والمجالية.
حيث وصف الخطاب هذه السنة بأنها سنة تكريس العمل بروح المسؤولية لأنه يمثل دعوة قوية لرفض التراخي السياسي و الإجرائي الذي قد يسبق الانتخابات. كما أن الإشادة بعمل البرلمان في صناعة التشريع هي مرتبطة بضرورة استكمال المخططات التشريعية وتنزيل المشاريع المفتوحة، حيث أن الخطاب الملكي حمل رسالة واضحة و صريحة للطبقة السياسية : يجب أن تبقى المصلحة الوطنية فوق الحسابات الانتخابية و السياسية ، وأن تضمن المؤسسة التشريعية استمرارية عمل الدولة حتى آخر يوم من ولايتها. كما أن الإشادة بالدبلوماسية الموازية تؤكد مرة أخرى ضرورة توحيد المجهود الدبلوماسي لمختلف الفاعلين لأجل خدمة القضايا الوطنية و الدفاع عن المصالح العليا للوطن .
الفكرة الرئيسية التي تمحور حولها الخطاب الملكي تكمن في ترسيخ العدالة الاجتماعية والمجالية كـتوجه استراتيجي ورهان مصيري، حيث لم تعد محاربة الفوارق السوسيو-مجالية مجرد أولوية ظرفية، بل أصبحت عقيدة حكامة تُقاس بها مدى مصداقية مسار “المغرب الصاعد”. هذا يضع إطاراً تقييمياً جديداً للسياسات العمومية، وخاصة الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية بشكل يطرح سؤالا له راهنيته ؛ هل تضمن هذه السياسات حقاً تكافؤ الفرص وشمول جميع الجهات بـعوائد النمو ؟ كان جواب الخطاب واضحا و صريحا أن هذا التحول يقتضي بالتوازي “تغييراً ملموساً في العقليات وطرق العمل”، وترسيخ “ثقافة النتائج” بناءً على المعطيات الميدانية الدقيقة، بدلاً من الاكتفاء بالإجراءات البيروقراطية. وعلى هذا الأساس، يُؤكد الخطاب الملكي السامي أن التنمية المحلية هي “المرآة الصادقة” الوحيدة لتقدم الوطن، مُوجهاً التركيز تحديداً نحو المناطق الأكثر هشاشة كالجبال والواحات، لضمان تضامن مجالي فعال ينهي التباينات الصارخة بين الأقاليم و هو ما أكد عليه جلالته : ” ندعو الجميع، كلٌّ من موقعه، إلى محاربة كل الممارسات التي تُضيّع الوقت والجهد والإمكانات، لأننا لا نقبل أي تهاون في نجاعة ومردودية الاستثمار العمومي. ” انتهى الإقتباس.
في سياق متصل بتوجيهات الخطاب المنهجية، فإن إلغاء التناقض المفترض بين المشاريع الكبرى والأولويات الاجتماعية ليس فقط توجيهاً سياسياً، بل هو في جوهره تأصيل دقيق لمفهوم التكامل الاقتصادي-الاجتماعي ضمن نموذج تنموي شمولي ، وتبعاً لذلك، يمثل هذا المبدأ تحولاً جذرياً عن المقاربة القطاعية التي تفصل بين النمو الكمي والعدالة التوزيعية، إذ يقتضي النموذج الجديد أن يكون الاستثمار الهيكلي مولّداً ومُموّلاً للحصيلة الاجتماعية ، فبالنظر إلى طبيعة المشاريع الكبرى، مثل البنية التحتية والاستثمارات الإنتاجية الضخمة (كإنتاج الطاقة النظيفة أو تطوير الموانئ و الطرق السريعة و النقل السككي و الملاعب )، ينبغي أن تُصمم مسبقاً ليس فقط لخلق الثروة، وإنما لضمان تحويل جزء أصيل ومستدام من عوائدها مباشرة لدعم برامج الحماية الاجتماعية وتطوير البنى التحتية للتعليم والصحة في المناطق المستفيدة. هكذا، يرسخ هذا التوجيه نموذجاً للسياسات العمومية المندمجة التي تضمن أن يكون النمو الاقتصادي شاملاً بطبعه ، مما يقطع الطريق أمام ظاهرة النمو غير العادل المقتصر على قطاعات أو جهات معينة. وعليه، يتحول الاستثمار المستدام من هدف في حد ذاته إلى رافعة فعالة لتمويل التنمية البشرية والمجالية.
لضمان نجاح الجيل الجديد من البرامج التنموية الترابية، دعا الخطاب إلى تحول عميق في المنهجية و طريقة العمل المتبعة، عبر تبني “ثقافة النتائج” ورفض العقليات التي تؤدي إلى “هدر الوقت والجهد والإمكانات”. هذه الدعوة الصريحة تمثل نقداً مباشراً للتأخر في التنفيذ وغياب الفعالية في أداء المؤسسات والإدارات المحلية. وعليه، يقتضي هذا التحول الإنتقال من التركيز على الإجراءات (أي مجرد احترام القوانين) إلى التركيز على الأثر الفعلي (أي النتائج الملموسة على حياة الناس). ولتحقيق ذلك، يدعو الخطاب كل الفاعلين و المتدخلين في العملية التنموية بالاعتماد على المعلومات الموثوقة والمدققة من الميدان والاستغلال الأمثل للتكنولوجيا الرقمية، بما يضمن صياغة سياسات و برامج تستند إلى الأدلة والوقائع، وهو ما يرفع بشكل حاسم من جودة وفائدة المال العام المستثمر، ويؤسس لآليات للمحاسبة والمساءلة بناءً على الإنجازات المحققة في الواقع .
في بُعده التفاعلي مع المواطنين، وسّع الخطاب دائرة مسؤولية تأطير المواطنين والتعريف بالقوانين من الحكومة إلى الجميع، وفي مقدمتهم البرلمانيون، إضافة إلى الأحزاب والإعلام والمجتمع المدني. بشكل يكرس فكرة وجود فجوة تواصلية تتطلب تعبئة شاملة لضمان القبول الاجتماعي للإصلاحات وإدراك المواطنين لحقوقهم، مما يعزز الثقة بين المواطن والمؤسسات ، و بالتالي إن توسيع دائرة مسؤولية تأطير المواطنين والتعريف بالقوانين، لتشمل الأحزاب والبرلمانيين، يضع مسؤولية أخلاقية وسياسية حاسمة على عاتق التنظيمات الحزبية. فلكي ينجح هذا التحول نحو الحكامة التشاركية، يجب على الأحزاب أن تنهض بدورها في تقديم بروفيلات ووجوه سياسية تحظى بالقبول الشعبي والجماهيري وتكون بمنأى عن شبهات الفساد ، و بالتالي فقدرة البرلماني على القيام بفعالية بوظائفه التأطيرية و التوضيحية ليست مجرد كفاءة خطابية، بل هي مفتاح استعادة الثقة وتجسير الفجوة التواصلية مع القواعد المجتمعية ،فغياب الثقة في حاملي الرسالة يقوّض مسبقاً الشرعية الشعبية للإصلاحات، مهما كانت أهميتها ، حيث أكد جلالته على ضرورة ” إعطاء عناية خاصة لتأطير المواطنين، والتعريف بالمبادرات التي تتخذها السلطات العمومية ومختلف القوانين والقرارات، ولا سيما تلك التي تهم حقوق وحريات المواطنين بصفة مباشرة. ” انتهى الإقتباس
من هذا المنطلق، يرسخ هذا التوجه أسس الحكامة التشاركية، حيث يتحول دور البرلماني من وظيفته التقليدية (تشريعية ورقابية) إلى وظيفة تأطيرية توضيحية، ليصبح عملياً قنطرة تواصل للسياسات على المستوى المحلي.و بالتالي فهذا التحول يعزز الوعي القانوني والسياسي للمواطنين، ويضمن أن تكون الثقة بين المواطن والمؤسسات نتاجاً مشتركاً لجهود التوعية. فالهدف النهائي هو إضفاء القبول الاجتماعي على القرارات، عبر التأكد من أن البرامج الحكومية لم تعد تُفرض من أعلى و تخدم مصالح فئة معينة بل تُفهم وتُدعَم من القاعدة الشعبية و تخدم مصالح الأمة .
حدد الخطاب الملكي أولويات جغرافية دقيقة للعمل الحكومي والبرلماني ، مؤشراً بذلك إلى نهاية حقبة “الحلول الجاهزة” في التنمية. حيث جاء التوجيه واضحاً بـإعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة مثل الجبال والواحات. هذا الإلزام ليس مجرد لفتة اجتماعية، بل هو إقرار بضرورة التخطيط الإقليمي المُكيَّف، الذي يفرض على الحكومة صياغة سياسات عمومية مندمجة تراعي الخصوصيات الإيكولوجية والديموغرافية لهذه المناطق. فالهدف المركزي هو ضمان أن تكون التدخلات التنموية (سواء في البنية التحتية أو الاقتصاد المحلي) متناسبة بشكل فعلي مع طبيعة الجغرافيا، وهو شرط أساسي لتحقيق العدالة المجالية و هو مأكد عليه جلالة الملك قائلا : ” فالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية ليست مجرد شعار فارغ، أو أولوية مرحلية قد تتراجع أهميتها حسب الظروف، وإنما نعتبرها توجهاً استراتيجياً يجب على جميع الفاعلين الالتزام به، ورهاناً مصيرياً ينبغي أن يحكم مختلف سياساتنا التنموية ” ؛ انتهى الإقتباس ،
في سياق متصل، شدد الخطاب على التفعيل الجدي لـالتنمية المستدامة للسواحل لإنشاء اقتصاد بحري وطني متكامل. فهذه الرؤية الملكية المتبصرة تتجاوز مجرد الاستغلال الاقتصادي، لتفرض معادلة صعبة لكنها حتمية: الموازنة بين التنمية السريعة وحماية المجال البيئي. حيث أن التوجيه بإدارة متكاملة للمناطق الساحلية يهدف إلى تحويل الشريط الساحلي إلى رافعة للثروة وفرص الشغل، شريطة ضمان الاستدامة البيئية للأنظمة البحرية لأن التهاون في هذا الملف سيُفقد الاقتصاد الوطني مقدراته المستقبلية، ويُهدد التوازن الإيكولوجي الحساس و يؤثر بشكل مباشرة على التوجه الأطلسي و المشاريع المهيكلة التي تعتمد على الواجهة الأطلسية لدفع الإقتصاد المغربي و تحقيق طموح المغرب الصاعد .
و في هذا السياق يدعو جلالته إلى توسيع نطاق المراكز القروية لتدبير التوسع الحضري، لما تمثله من استراتيجية ذكية و فعالة لتحقيق التوازن الترابي المنشود. فبدلاً من تركيز الاستثمار في المدن الكبرى، يهدف التوجه الملكي إلى تحويل هذه المراكز الناشئة إلى أقطاب خدماتية جاذبة، قادرة على تقريب الخدمات الإدارية والاجتماعية من المواطنين في العالم القروي. فهذا الإجراء يحمل قيمة مضاعفة؛ إذ يقلل الضغط الهائل على المدن الكبرى، وفي الوقت ذاته، يساهم بشكل فعال في احتواء الهجرة القروية نحو المدن، مُرسخاً بذلك التوزيع المتوازن للفرص ، و بالتالي تُجمع هذه الأولويات الجغرافية على ضرورة العمل وفق منظومة للتكامل المجالي وليس سياسات و برامج منعزلة. فنجاح الاستثمار في الجبال مرتبط بربطه بشبكات المراكز القروية القادرة على التسويق والتأطير، ونجاح الاقتصاد البحري يتطلب ربطه بالخلفية الترابية المنتجة. هذا التخطيط الإقليمي المُكيَّف هو شرط غير قابل للتفاوض لتحقيق العدالة المجالية المنصوص عليها في الخطاب و في كل الخطب الملكية السابقة . فالفاعل المؤسساتي مطالب اليوم بالانتقال من إدارة الأقاليم إلى صناعة التكامل بينها وفق التوجهات الترابية الكبرى للمملكة في إطار الجهوية الموسعة .
الخطاب الملكي السامي أمام ممثلي الأمة حمل نداءً صادقا بأبعاد أخلاقية صارمة ، حيث يدعو جميع الفاعلين بالتحلي بـالنزاهة والالتزام ونكران الذات، مختتما خطابه السامي بالآية الكريمة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.}. حيث يعيد تأطير العمل السياسي والعمومي في خانة الأمانة والواجب الوطني الأعلى، مؤكداً أن معيار النجاح ليس سياسياً فقط، بل هو معيار مردودية و نزاهة و إلتزام وإخلاص في خدمة الوطن والمواطنين.
التعاليق (0)