بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية.
من مدينة بريمن الألمانية، تلك الحاضرة الهادئة التي تقف على نهر فيزر بشموخ التاريخ الأوروبي، خرج صوت مغربي دافئ، لا يطالب بشيء، بل يمنح كل شيء: البهجة، والموسيقى، والنكهات، والحكايات، وأهم من ذلك، يمنح صورة مغرب عريق، لا يزال ينبض بالحياة أينما حلّت جاليته.
على مدى ثلاثة أيام، من 18 إلى 20 شتنبر 2025حيث تحوّلت بريمن إلى لوحة مغربية مفتوحة. من ساحة السوق العريقة إلى أزقة المدينة التي عجّت بالزوار، ارتفعت ألوان المغرب، لا كاستعراض فولكلوري عابر، بل كحضور إنساني عميق الجذور. فـ”الأيام الثقافية المغربية” لم تكن مجرد تظاهرة فنية، بل كانت إعلانًا حضاريا عن هوية لا تنكسر، وهوية لا تتعالى، بل تتقاسم وتُشرك وتحتفل بالآخر.
- المغاربة.. سفراء من نوع خاص
لا يحتاج المغاربة إلى جواز سفر دبلوماسي ليكونوا سفراء. هويتهم وحدها كافية. يكفي أن تجد مغربيا في اي بلد من العالم ، لتجد معه قدرًا من بلده الأم. هم لا يهاجرون وحدهم، بل يحملون معهم “كسكس الجمعة”، وصوت عبد الصادق شقارة، ورائحة النعناع، ودفء “الدقة المراكشية”، والحنين إلى الأمهات اللواتي لا ينمن إلا بعد صلاة العشاء.
في بريمن، تجلّت هذه الروح مرة أخرى. فالجالية المغربية، كما عهدناها في كل بقاع العالم، لا تكتفي بالاندماج في مجتمعها المضيف، بل تساهم، وتؤثّث، وتبدع، وتذكّر بأن الهجرة ليست هروبًا من الوطن، بل امتداد له في الجغرافيا الإنسانية الكبرى.
- ثقافة المغرب.. موروث لا يُختصر
ما ميّز هذه الأيام الثقافية هو التنوع المذهل الذي يحتضنه المغرب، ذلك البلد الذي يحتفي بالاختلاف ويصنع منه وحدة. من طنجة إلى الكويرة، ومن الريف إلى سوس، ومن دكالة إلى درعة، يمتلك المغرب فسيفساء ثقافية تندر في عالم اليوم.
وهذا ما لمسناه في عروض بريمن: الطرب الشعبي، الموسيقى الحسانية، النكتة المغربية، السينما الناشئة، وحتى المطبخ المغربي الذي تحوّل إلى تجربة حسية كاملة، تذوق فيها الألمان “الطاجين” كما لو كان طبقًا عابرًا للحدود.
إنها ثقافة لا تملّ من الإدهاش، ولا تتوقف عن التطور. تقليدية في جذورها، معاصرة في تعبيراتها. وحين تنتقل إلى مدن العالم، لا تفقد بريقها، بل تكتسب معاني جديدة، وتغني السياقات التي تدخلها، دون أن تنصهر فيها.
- الثقافة جسر لا يعرف التطرّف
أجمل ما في مثل هذه المبادرات، هو قدرتها على خلق لحظات إنسانية خالصة، بعيدًا عن السياسة والتوترات والهويات المغلقة. في ساحة بريمن، كان المغربي يتحدث مع الألماني بلسان الفن، والبهجة، والمشاركة. لا حاجة للغة مشتركة حين يكون “الإيقاع” هو اللغة. ولا حاجة للترجمة حين تتحدث “النكهة” باسمها.
هذا ما نحتاجه أكثر في عالم اليوم: ثقافة لا تخاف من الآخر، بل تذهب نحوه، تفتح أبوابها، وتقول له: “تعال نحتفل، تعال نتقاسم الخبز والموسيقى والضحك والذاكرة”.
- في الختام.. درس من الجالية إلى الوطن
حين نرى ما تُقدّمه الجالية المغربية في الخارج من مبادرات، نكاد نخجل من بعض المؤسسات في الداخل التي لا تبذل نصف هذا الجهد في ترويج الثقافة الوطنية او تشجيع جمعيات تقوم بهذا الدور على احسن ما يرام . الجالية تُدرك أن الثقافة ليست ترفًا، بل رافعة للكرامة، ومجالًا للحوار، وأداة للتأثير الناعم.
المغاربة في ألمانيا، وفي غيرها، يقدمون درسًا عمليًا في المواطنة الممتدة، وفي التمسك بالجذور دون تعصب، وفي الانفتاح دون انبهار. هم لا ينقلون صورة المغرب فحسب، بل ينقلون روح المغرب.
وإذا كان العالم يبحث عن صيغ جديدة للتعايش والاحترام المتبادل، فعليه أن ينظر جيدًا إلى ما حدث في بريمن: حيث جعل المغاربة من الثقافة جسرًا، ومن الفن رسالة، ومن البهجة هوية.
التعاليق (0)