مدن لا روح فيها

a4 كُتّاب وآراء

للأسف، لم تظهر نتائج البحث الوطني حول الطلب على السكن إلا ووزير السكنى وسياسة المدينة، السيد نبيل بنعبد الله، يجمع حقائبه للخروج من الوزارة، ومعه الحكومة التي لم يبق أمامها سوى بضعة أسابيع من العمل، إذا نحن أزلنا شهر رمضان وشهر العطلة وشهر الانتخابات من الحساب. كان الأولى أن تكون النتائج المهمة للدراسة، التي أعلنت يوم أمس أمام الوزير، في سنته الأولى لكي يعرف معاناة المواطنين وحاجاتهم، ومن ثم يعد مخططا لإصلاح سياسة السكن في بلاد تعيش في فوضى للتعمير منذ أن خرج الاستعمار الفرنسي، الذي وضع أول مخطط للتعمير سنة 1914، حيث استقدم الجنرال اليوطي كبار المهندسين الفرنسيين من فرنسا إلى المغرب لبناء تحف معمارية مازالت هي الأفضل اليوم في جل المدن المغربية بعد 60 سنة من الاستقلال!
أظهر البحث الوطني حول الطلب على السكن، الذي كشفته وزارة السكنى وسياسة المدينة، أن حوالي نصف سكان أكبر جهة في المغرب (جهة الدار البيضاء-سطات) غير راضين عن المنازل التي يقطنون بها، وأنهم يحلمون بالخروج منها إلى مساكن أكبر وأجمل وأقرب إلى المرافق العامة، فيما قال ٪25.9‏ من سكان جهة طنجة-تطوان إنهم غير راضين عن مستوى سكنهم، تليها الجهة الشرقية التي وصلت فيها نسبة غير الراضين إلى 25,6 ٪‏، ثم جهة فاس-مكناس (21,9 ٪‏)، وبني ملال-خنيفرة (21,4 ٪‏)، والرباط-سلا-القنيطرة (18,5 ٪‏)، فيما سجلت جهة مراكش-آسفي أقل نسبة عدم رضى عن السكن بحوالي 10٪.‏
المصيبة ليست فقط في هذه النسبة المرتفعة من الغاضبين على جودة السكن في البلاد.. المصيبة الأكبر أن هذه النسب الكبرى من التعساء في المدن والقرى لا تشمل خلق الله الذين يسكنون في دور الصفيح والبراريك والمساكن العشوائية فوق السطوح وتحت العمارات وفي المنازل الآيلة للسقوط في أي لحظة…
البحث تناول فقط المواطنين الذين يسكنون في إقامات ومنازل وعمارات مرخص لها وتقع ضمن مخططات التعمير -أو التخريب لا فرق- أما المواطنون المنسيون في أحزمة الفقر، التي تطوق جل المدن، فهؤلاء خارج الحساب. ماذا تعني هذه الأرقام؟
تعني، أولا، أن المملكة الشريفة لا تتوفر على سياسة للمدينة، ولا على مخططات للتعمير في صالح الإنسان وفي خدمة راحته واستقرار عائلته، وتعني، ثانيا، أن كل الهدايا التي أعطتها الدولة لحيتان العقار، في صورة آلاف الهكتارات من الأراضي وما لا يحصى من الامتيازات الضريبية، لم ينتج عنها سوى القليل من المساكن المقبولة والكثير من قبور الحياة التعيسة، وأن جل مقاولات العقار، التي جنت الذهب من وراء «السيما» قبل أن يجف ضرع البقرة، نمت ثروات خيالية دون أن تقدم منتوجا صالحا للسكن. أرقام البحث الوطني حول الطلب على السكن تعني، ثالثا، أن وزارة الداخلية يجب أن ترفع يدها كليا عن التعمير والسكن ورخص البناء لأن هذه الوزارة، التي تحشر أنفها في كل شيء، أصبحت جزءا من المشكلة وليست جزءا من الحل (يجب أن نستحضر أن الوكالة الحضرية في الدار البيضاء، التي جاءت منها الأرقام الكارثية أعلاه، موضوعة تحت وصاية وزارة الداخلية منذ أيام إدريس البصري وعصابته). رابعا، المغرب مازالت أمامه عقود وربما قرون لينتج مدنا حديثة بمواصفات عصرية وجودة سكن مقبولة. ما نراه أمامنا مجرد تجمعات إسمنتية، علب ضيقة، وعمارات تائهة، وأحزمة عشوائية، ومدن داخل المدينة الواحدة بحدود تماس متوترة بين قاعدة الفقراء الواسعة وقمة الأغنياء الضيقة، وبينهم طبقة وسطى ممزقة، لا هي قادرة على العيش في مدينة الأغنياء، ولا هي تتحمل الحياة في مناطق الفقراء. في المدينة المغربية مجال حضري محكوم بقانون العشوائية والرشوة والفساد «واضرب واهرب».. مجال عشوائي لا وجود فيه للنظام وللجمال وللفن وللثقافة وللتناسق وللخضرة وللحياة.يعيش الناس في البيضاء، مثلا، باعتبارها مأوى لا باعتبارها مدينة.. يعيشون طبقات معزولة عن بعضها البعض، يلتقون بالصدفة أو الخطأ أو الاضطرار، في جغرافيا مليئة بالقبح والعنف والتوتر والقذارة.. جغرافيا حضرية لا تمتلك مقومات الحضارة، مجرد مقاهٍ ينشر فيها الناس أرجلهم ويمدون أعينهم للتلصص على أعطاب بعضهم البعض.. هوايتهم قتل الوقت. طرقات مكتظة بالسيارات لأن وسائل النقل العمومية متهرئة ولا تصلح إلا لتلويث جو المدينة، فضاء بدون مساحات خضراء كافية ولا بنيات تحتية رياضية وثقافية وفنية. الدار البيضاء التي تنتج أكبر قسط من الثروة في المغرب تعيش فقرا روحيا ومجاليا وثقافيا رهيبا… البيضاء قوالب جاهزة لاستيعاب عبء ديمغرافي لم يخطط له أحد، ولا يرحب به أحد، وليست مدينة وراءها تخطيط وسياسة وهوية وانتماء.. جل أحيائها الجديدة تدمير للفضاء لا بناء للعمران، وهذا ما يجعل الناس يحسون بالتعاسة داخلها، وبالرغبة في الهجرة أو الحريك، أو الهرب بكل أشكاله، حتى المدمر منها
توفيق بوعشرين

التعاليق (0)

التعاليق مغلقة.