مولات البغرير لم تحرق نفسها فقط/

a4 كُتّاب وآراء

الأخبار الأولى الآتية من مطبخ التحقيق القضائي مع قائد القنيطرة تقول إن القايد متورط في تعنيف المرأة التي أصبحت تدعى صاحبة البغرير، والتي أحرقت نفسها في الشارع العام قبل أسابيع انتقاما لكرامتها التي أهينت من قبل ممثل السلطة في المدينة. المصادر القضائية تؤكد أن القايد صفع المرأة أمام شهود قدموا روايتهم للنيابة العامة، وأن رجل السلطة دخل رسميا إلى قفص الاتهام، وأنه سيعرض قريبا على القضاء ليقول كلمته فيه.
في أقل من شهر، هذا ثاني قايد يدخل إلى المحكمة متهما باستغلال النفوذ واستعمال السلطة في غير محلها ضدا على حقوق المواطنين المستضعفين. الأول حاول أن يقايض الجنس بالبناء العشوائي في الدروة، وصنع فيلما هيتشكوكيا من أجل الوصول إلى زوجة مواطن قدم رشوة لعون السلطة من أجل أن يسمح له بالبناء العشوائي في السطح، قبل أن تتحول القصة إلى فيلم مثير فيه جنس وعنف وسلطة وأشرطة مصورة، وبقيت الرواية معروفة، والجميع الآن بيد المحكمة، أما القايد الثاني فكاد يشعل النار في البلاد كلها عندما امتدت يده إلى وجه امرأة تبيع مأكولات تقليدية لإعالة أسرتها الفقيرة، فلم يجد من طريقة لإقناعها بالابتعاد عن الشارع سوى صفعها، ولأن صبرها وصل إلى نهايته، فما كان منها إلا أن أشعلت النار في جسدها وتركته يحترق أمام أعين الناس احتجاجا على الإهانة وانتقاما للكرامة، وبحثا عن حل جذري لمتاعب حياة أصبح الموت أقل تكلفة منها.
منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه في تونس سنة 2010 احتجاجا على صفعه من قبل شرطية في سيدي بوزيد ونحن نرى تكرار حوادث استعمال الجسد طريقة للتعبير والاحتجاج ورفض ظلم السلطة.. إنها حيلة الضعفاء الذين تسد أمامهم الأبواب، ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم بالأدوات الممكنة، فيلجؤون إلى إنهاء حياتهم بالنار التي تلتهم أجسادهم التي لم تعد لها حرمة في بيئة اجتماعية قاسية، وأمام سلطة لا تعترف بإنسانية الإنسان ولا بكرامته ولا بظروفه المعيشية.
عشرات الحالات التي سجلت في المغرب لرجال ونساء أحرقوا أنفسهم، وسلموا الروح إلى صاحب الروح قبل دنو أجلها، لأن الحياة صارت مستحيلة على الأرض، ولأن الأمل غائب في الأفق، ولأن يد السلطة غليظة، ولا وجود لسلطة مضادة لها تقف في وجهها وتردعها عن عباد الله الضعفاء.
يجب على الدولة أن تستيقظ من سباتها، ويجب على السلطة أن تخرج من حالة التخدير التي تعيشها قبل فوات الأوان، هذه إشارات إنذار تتضمن ثلاث حقائق لا ترى بالعين المجردة للأسف الشديد.
أولاها أن الفقر والتهميش والهشاشة التي يعيش فيها ملايين البشر (أعطى الملك محمد السادس رقما مهولا قبل سنة، حيث تحدث عن 12 مليونا من المغاربة يوجدون في موقع هشاشة).. هذه الثقوب الكثيرة في الدربالة المغربية تتسع ولا تنحصر، وجل البرامج والمخططات والمشاريع التنموية لا تصل إلى هؤلاء، وأن الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا، وأن الدولة لا تتوفر على إرادة فولاذية لإنقاذ هؤلاء من مصيرهم البائس، وإذا توفرت الإرادة فإن الاستعداد لأداء الفاتورة الاجتماعية غير موجود، وإذا وجد فإن الحسابات السياسية والانتخابية تعرقل وصول رحمة الله إلى مستحقيها.
الحقيقة الثانية أن مواطني القرن الـ21 ليس لهم صبر آبائهم وأجدادهم، وأن استعدادهم للقبول بالأمر الواقع ينقص يوما بعد آخر، فالسيدة التي أقدمت على حرق نفسها في القنيطرة ليست ثورية ولا يسارية ولا سلفية ولا نقابية ولا جهادية.. إنها امرأة امتلكت شجاعة استعمال حياتها لحفظ كرامتها، وجسدها للاحتجاج على السلطة.. إنها لم تحرق جسدها فقط، بل أحرقت مع جسدها برنامج الحكومة ووعود الدولة وواقع السلطة وشعاراتها الكاذبة.
ثالث حقيقة كشفتها حادثة مولات البغرير أن البلاد تشهد ميلاد رأي عام قوي وفاعل ومتيقظ، وأن هذا الرأي العام له عالم افتراضي (شبكات التواصل الاجتماعي) يبلور فيه المطالب والشعارات والرفض والاحتجاج، والترافع عن المواطنين الذين لا صوت لهم، وعن القضايا التي لا محامي لها، في مواجهة الظلم الذي لا يقف في وجهه أحد، وأن هذا الكائن الافتراضي يخرج إلى الواقعي، وأن الحدود بين الافتراضي والواقعي تمحى يوما بعد آخر، وأن المعادلة المغربية لم تعد بمتغيرين، الدولة والأحزاب، بل صارت معادلة بثلاثة متغيرات: الدولة والأحزاب والشعب الذي يملك منصة للتعبير، ومكبر صوت، وآلة للتنظيم، وإذاعة وتلفزة وجريدة للتواصل، وجنودا إلكترونيين يشتغلون بالليل والنهار، وأن الاستجابة لهم ضرورية، وتجاهلهم مشكلة كبيرة.
توفيق بوعشرين

التعاليق (0)

التعاليق مغلقة.