بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
في السياسة، لا وجود لخطايا بلا ارتداد. ومن يجعل من تفكيك الدول مشروعًا دائمًا، لا يمكنه الادعاء بالدهشة حين تبدأ خرائطه الخاصة في التصدع. هكذا، وبلا كثير ضجيج، أعلن ممثلو القبايل يوم 14 دجنبر 2025 استقلال ما سُمّي بـ«جمهورية القبايل الاتحادية»، في لحظة سياسية تختصر سنوات من التناقض، وتضع النظام العسكري الجزائري أمام مرآة خطابه نفسه.
لعقود، لم يُخفِ النظام الجزائري رهانه الاستراتيجي على إضعاف المملكة المغربية عبر تمويل وتسليح واحتضان جبهة البوليساريو، ليس بدافع “نصرة الشعوب”، كما يروّج، بل في إطار عقيدة عسكرية ترى في الانفصال أداة ضغط جيوسياسي، وفي النزاعات المجمدة وسيلة لإرباك الخصوم ومنعهم من الاستقرار الإقليمي. كانت الصحراء المغربية ساحة هذا الرهان، وكانت شعارات “تقرير المصير” غطاءه الأيديولوجي.
غير أن اللعب بورقة الانفصال لا يعرف حدودًا وطنية. فالمبدأ الذي يُضخّ بالمال والسلاح والدعاية في الخارج، لا يبقى محصورًا هناك. وما حدث اليوم في منطقة القبايل ليس طارئًا، بل نتيجة منطقية لمسار طويل من شرعنة التفكيك وتقديس الانقسام حين يخدم أجندة السلطة العسكرية.
إعلان استقلال القبايل، في هذا التوقيت بالذات، ليس مجرد حركة رمزية من منفى سياسي، بل ضربة مباشرة لجوهر الخطاب الرسمي الجزائري. فالسلطة التي نصّبت نفسها لعقود كـ«المدافع الأول عن حق تقرير المصير»، تجد نفسها اليوم مطالبة بتطبيق الشعار ذاته داخل حدودها. وهنا يسقط القناع: إما أن يكون المبدأ عامًا، أو أن ينكشف كأداة انتقائية فاقدة لأي شرعية أخلاقية.
المفارقة الصارخة أن النظام الذي موّل الانفصال في الصحراء المغربية، وهاجم وحدة المغرب في كل المحافل، بات اليوم يواجه خطابًا انفصاليًا يستند إلى نفس المرجعيات القانونية والسياسية التي طالما استعملها ضد غيره. الفارق الوحيد أن الساحة هذه المرة جزائرية، والحرج داخلي، والثمن سياسيًا وأمنيًا أكبر بكثير.
في المقابل، يبرز النموذج المغربي كنقيض كامل لهذا النهج. فالمغرب، بدل تصدير أزماته أو الاستثمار في فوضى الجوار، اختار تحصين وحدته، وبناء شرعيته عبر التنمية والدبلوماسية الهادئة والوضوح القانوني. لم يحتج إلى تمويل ميليشيات، ولا إلى اختلاق كيانات وهمية، لأن قضيته لم تُبنَ على إنكار الآخر، بل على تثبيت الواقع.
إن إعلان القبايل استقلالها اليوم لا يمكن فصله عن حقيقة واحدة: من أحبّ الانفصال لجاره، فقد فتح له الباب في بيته. فالدول لا تُهدَّد من الخارج فقط، بل من الأفكار التي تتبناها حين تعتقد أنها محصنة من نتائجها.
وإذا كان النظام العسكري الجزائري قد جعل من الانفصال سلاحًا ضد المغرب، فإن التاريخ، كعادته، أعاد السلاح إلى صاحبه. لا انتقامًا، بل تطبيقًا صارمًا لقاعدة السياسة الكبرى: ما تزرعه اليوم في أرض غيرك، قد تحصده غدًا في أرضك.
