مسيرة النماء بالجنوب تجذب أنظار إفريقيا: العيون تستعرض نموذجاً تنموياً رائداً

أخبار وطنية

بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية

تعيش مدينة العيون، عاصمة الأقاليم الجنوبية، لحظة فارقة في مسار ترسيخ حضورها كقطب جهوي وقاري، بعد أن تحولت خلال الأيام الأخيرة إلى قبلة لوفد برلماني إفريقي رفيع المستوى يمثل 18 دولة ضمن شبكة البرلمانيين الأفارقة لتقييم التنمية (APNODE). وعلى الرغم من الطابع البروتوكولي والدبلوماسي للزيارة، إلا أن محتواها العميق يكشف توجها استراتيجيا يربط بين الإنجازات التنموية الميدانية وامتداد influence diplomacy المغربية داخل القارة.
وخلال مختلف محطات الزيارة، عبّر أعضاء الوفد البرلماني الإفريقي، بشكل جماعي، عن إشادتهم العميقة بالقيادة المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، معتبرين أن ما تحققه الأقاليم الجنوبية من طفرة تنموية هو ثمرة رؤية ملكية بعيدة المدى جعلت من الجنوب المغربي فضاءً للنمو والاندماج الإفريقي.

  • إعادة تعريف موقع العيون في الخريطة الإفريقية

اختيار العيون لاحتضان الدورة العاشرة للجمعية العامة لـ APNODE ليس مجرد صدفة جغرافية، بل هو تكريس لمسار بدأ منذ إطلاق النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية سنة 2015. فمنذ ذلك الحين، تحولت المدينة إلى ورش مفتوح يجمع بين البنيات التحتية الكبرى ومراكز الكفاءات ومشاريع الطاقات النظيفة، ليصبح حضور الوفود الإفريقية اليوم اعترافا ضمنيا بنجاح هذا النموذج في نسخته المغربية.
الوفد الذي قاده جيريمي أدوماهو، رئيس الجمعية العامة للشبكة، وجد أمامه ما يشبه مختبرا حيا للتنمية: محطة متطورة لتحلية مياه البحر تعتمد الطاقة المتجددة، أوراش فوسفاطية رائدة، مركز استشفائي جامعي على مشارف الافتتاح، ومدينة للمهن والكفاءات تستقطب نخبا من الشباب المغاربة والأفارقة على حد سواء.

  • مياه البحر… من التحدي إلى ميزة تنافسية

توقّف الوفد عند محطة تحلية مياه البحر بالمرسى، وهو مشروع يقدّم نموذجا لمقاربة مغربية تجمع بين الأمن المائي والاستدامة. فمنطقة الجنوب الصحراوية التي كانت تُسجّل ندرة مائية تاريخيا، باتت اليوم تملك قدرة إنتاج نوعية بفضل التكنولوجيا الحديثة وإدماج الطاقات المتجددة.
هذا التحول لم يمر على البرلمانيين مرور الكرام؛ بل عدّه بعضهم تجربة قابلة للتصدير إلى بلدان إفريقية تعاني التحديات ذاتها، خصوصا في الساحل وغرب إفريقيا. وهنا تتجلى إحدى أهم رسائل الزيارة: المغرب لا يعرض فقط إنجازاته، بل يقدم حلولا جاهزة للشراكة الإفريقية الإفريقية.

  • فوسبوكراع… اقتصاد محلي برؤية قارية

المحطة الثانية تمثلت في منشآت فوسفاط بوكراع، التي تشكل رافعة اقتصادية حقيقية للجهة. سلسلة الإنتاج التي اطلع عليها الوفد، من الاستخراج إلى التصدير، أبرزت حجم الاستثمارات الموجهة لخلق قيمة مضافة وطنيا ومحليا. لكن الأهم هو ارتباط هذه المنشآت بمبادرات اجتماعية وتعليمية تشرف عليها مؤسسة فوسبوكراع، ما يعطي البعد التنموي صيغته الشاملة.
بالنسبة لعدد من النواب الأفارقة، يقدّم هذا النموذج دليلا على قدرة المغرب على ربط الموارد الطبيعية بمشاريع بشرية قادرة على خلق دينامية اقتصادية طويلة المدى.

  • البنية الصحية والتعليمية… رهانات الدولة الاجتماعية

المركز الاستشفائي الجامعي بالعيون، بنسبة تقدم تفوق 95%، يُعد من أكبر المشاريع الصحية في الجنوب. بطاقة استيعابية تبلغ 500 سرير وتجهيزات طبية حديثة، يشكّل هذا الصرح تحولا جذريا في البنية الصحية للجهة، ويدعم في الوقت ذاته سياسة تقريب الخدمات الصحية من السكان وربط الجنوب بالشبكة الوطنية للمستشفيات الجامعية.
الأمر نفسه ينطبق على كلية الطب ومدينة المهن والكفاءات اللتين تتقدمان بثبات في اتجاه تكوين أطر مغربية وإفريقية مؤهلة في مجالات تستجيب لحاجيات سوق الشغل الحالية والمستقبلية. وهنا يبرز بوضوح الدور الذي يلعبه المغرب في بناء جسور تعليمية ومهنية مع القارة.

  • تقييم السياسات… المغرب مرجعية قارية

أحد محاور النقاش البارزة خلال الزيارة هو موقع المغرب في منظومة تقييم السياسات العمومية. فقد شدد جيريمي أدوماهو على أن المملكة تُعد اليوم نموذجاً قاريا في هذا المجال، بعد أن دسترت مبدأ التقييم ومنحت البرلمان أدواراً مركزية في تتبع الأثر وقياس الفعالية.
هذه الإشادة ليست فقط اعترافا بالمؤسسات المغربية، بل هي مؤشّر على تحوّل المغرب إلى مرجع في الحوكمة والتخطيط، خصوصا بالنسبة لدول تخوض مسار إصلاح تشريعاتها مثل السنغال وكوت ديفوار وبنين.

  • الدبلوماسية البرلمانية… أداة استراتيجية لتعزيز النفوذ

زيارة الوفد الإفريقي وجولاتهم المكثفة على الأوراش التنموية تُظهر قوة الدبلوماسية البرلمانية التي بات مجلس المستشارين يعتمدها بشكل ممنهج. فالمعاينة الميدانية تمنح البرلمانيين الأفارقة صورة حقيقية عن تطور الأقاليم الجنوبية، وتقطع مع الروايات التقليدية التي كانت تُقدّم المنطقة في إطار صراعات سياسية أكثر منها فضاءات تنموية.
بهذا المعنى، تشكّل العيون اليوم منصة نموذجية للحوار جنوب جنوب، ومركزاً قارياً للتفكير في مستقبل التنمية والحكامة وتقييم السياسات.

  • خلاصات
  1. العيون لم تعد مجرد مدينة مغربية في الجنوب، بل صارت مركزا قاريا لصناعة المعرفة التنموية.
  2. المشاريع الكبرى التي تمت معاينتها تعكس انتقال المغرب من منطق البرامج إلى منطق المنظومات المتكاملة.
  3. اهتمام شبكة البرلمانيين الأفارقة يعزز موقع المملكة كفاعل مؤثر في بناء السياسات العمومية بالقارة.
  4. تزايد الوفود الإفريقية يكرّس نجاح الدبلوماسية البرلمانية المغربية كرافعة استراتيجية موازية للدبلوماسية الرسمية.
  5. نموذج التنمية في الأقاليم الجنوبية يتحول تدريجيا إلى مرجع تستطيع مختلف الدول الإفريقية استلهامه وتكييفه.
  6. الإشادة الجماعية بالقيادة الملكية تؤكد أن التحولات التنموية بالجنوب هي ثمرة رؤية ملكية استباقية وملهمة لكثير من الدول الإفريقية.
  • الحاصول

ما يجري اليوم في الأقاليم الجنوبية يتجاوز حدود الإنجاز المحلي ليشكّل إعلانًا واضحًا عن تحول المغرب إلى قوة إفريقية في مجال التنمية والتخطيط وتقييم السياسات. والعيون، بما احتضنته من لقاءات وبما عرضته من مشاريع، تثبت أنها ليست فقط مدينة تنموية، بل نافذة مغربية مشرعة على مستقبل إفريقيا، بدعم وتوجيه من القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.