هو أول من فكر في الطيران، وأول من اخترق الجو من البشر. وفي سبيل ذلك قام بتجارب كثيرة درس من خلالها ثقل الأجسام، ومقاومة الهواء لها، وتأثير ضغط الهواء فيها إذا ما حلَّقت في الفضاء. وكان خير معين له تبحره في العلوم الطبيعية والرياضيات والكمياء، كما أنه اطلع على خاصيات الأجسام قبل الشروع في تجربته. هذه الدراسات العلمية، جعلت بن فرناس يعقد العزم على أن يخوض تجربة الطيران الحقيقي بنفسه، رغم المخاطر التي تحوم حول هذه التجربة الأولى عبر التاريخ. ومن أجل تعميق دراساته وأبحاثه، درس بإمعان حركة أجنحة الطيور عند طيرانها، واستخدم مهاراته في الرياضيات لحساب تناسب السرعة والرياح، فكَسَا نفسه بالريش الذي اتخذه من الحرير الأبيض لمتانته وقوته، بالقدر الذي يتناسب مع ثقل جسمه. صَنع له جناحين من الحرير أيضا يحملان جسمه إذا ما حركهما في الفضاء.
بعد أن أكمل بن فرناس كل ما تحتاجه هذه التجربة الخطيرة، وتأكد من أن باستطاعته إذا ما حرك هذين الجناحين أن يحملانه ليطير في الجو كما تطير الطيور… بعد أن أعد العدة، أعلن على الملأ أنه يريد أن يطير في الفضاء وأن طيرانه سيكون في مدينة قرطبة، حتى تكون تجربته موثقة بالشهود. اجتمع الناس هناك لمشاهدة العمل الفريد والطائر الآدمي الذي سيحلق في سماء قرطبة. صعد بن فرناس بآلته الحريرية فوق مرتفع، فحرك جناحيه، ثم قفز في الجو وطار في الفضاء مسافة بعيدة عن المكان الذي انطلق منه، والناس ينظرون إليه بدهشة وإعجاب. وعندما همَّ بالهبوط إلى الأرض، فقدَ بن فرناس توازنه فأصيب في ظهره. أدرك أنه لم يأخذ بعين الاعتبار حساب الهبوط. وتعلم، من تجربته هذه، أهمية الذيل في عملية الهبوط ودوره في تثبيت توازن الجسم.
شكلت تجربة بن فرناس في القرن التاسع ميلادي، الانطلاقة الفعلية لتاريخ تجارب الطيران في العالم. وإذا كانت تجربة بن فرناس انتهت بإصابته في الظهر، فإن الكثير من التجارب في هذا المجال انتهت بموت أصحابها نظرا لخطورتها. ويمكننا القول إن تجارب الطيران خلفت عبر التاريخ، العدد الأكبر من الوفيات في صفوف الطيارين، قياسا للتجارب في التخصصات الأخرى.
سقوط عباس بن فرناس وإصابته في ظهره، جعل خصومه ومن يحسدونه على النجاحات التي حققها في تجاربه العلمية، يطلقون عليه الإشاعات ويصفونه بالساحر والمشعوذ. ويكمن سبب تلك الإشاعات إلى كون الناس لم يعتادوا على مثل تلك التجارب الخطيرة، وكان تفكيرهم يعتبر طيران الإنسان ضربا من الجنون عَكْس بن فرناس الذي كان يحمل تفكيرا علميا موجها نحو المستقبل، وكان مقتنعا بإمكانية الطيران في الهواء كما تفعل الطيور استنادا لأبحاثه العلمية. علما أن تجارب الطيران التي تلت تجربة بن فرناس، انتهت بعضها بموت صاحب التجربة، ولم تتخلى الإنسانية عن هذه التجارب حتى أصبح السفر في الطائرة شيئا عاديا في الحياة.
كانت تجربة بن فرناس هي الأولى من نوعها في تاريخ البشرية، وقد شكلت مرجعا علميا، استفادت منه التجارب اللاحقة التي شهدها تاريخ الطيران. فبعد تجربة بن فرناس، قام -ليونارد دافينتشي- برسم أول مسودة للمظلة الهوائية (Parachute) في القرن 16، وتم تسجيل أول براءة اختراع سنة 1802 لأول مظلة للتحليق في الهواء بعد أن عرف العالَم أول تحليق بها في 1797. وتعود أول قفزة من الطائرة باستعمال المظلة الهوائية إلى سنة 1912. كما عرفت البشرية أول تجربة للتحليق عبر الطائرة سنة 1890. وفي سنة 1884، عرف العالَم أول رحلة بمنطاد يشتغل بالهيدروجين الشديد الاشتعال. وازدهرت الرحلات الجوية باستعمال المنطاد التي كانت تربط بين باريس ونيويورك، إلى أن عرف العالَم مأساة احتراق منطاد “زيبلين” قرب العاصمة الأمريكية سنة 1937، وهو الحادث الذي قضى فيه 59 شخصا كانوا على متن تلك الرحلة التي أقلتهم من باريس إلى نيويورك. والتهمت النيران المنطاد عند وصوله إلى نيويورك خلال عملية النزول.
عرف تاريخ الطيران نقلة نوعية بعد نجاح الطيار الأمريكي -شارل ليندبيرغ- بالقيام بأول رحلة طيران دون توقف لقطع المحيط الأطلسي بين القارة الأمريكية والأوروبية في سنة 1927. وأتت هذه الرحلة الناجحة، بعد رحلة مميتة في الاتجاه المعاكس في نفس التاريخ، سقطت خلالها طائرة طيارين فرنسيين وفُقدت جثتيهما في المحيط الأطلسي. نجاح رحلة الطيار الأمريكي، فتحت المجال لتطور الطيران البين-قاري.
إذا كانت تجربة عباس بن فرناس لم ينتج عنها إلا آلام في الظهر، فإن تجارب أخرى انتهت بوفاة أصحابها. ورغم أن اسم ابن فرناس ارتبط بمحاولته الجريئة للطيران قبل ألف عام من بروز أولى تجارب الطيران عبر الطائرة، فإنه أبدع في مجالات علمية متعددة كان نتاجها تقديم العديد من الاختراعات التي ما زالت تلعب دورا مهما في حياة البشر حتى يومنا هذا. نذكر على سبيل المثال اختراعه للزجاج الشفاف بدون لون باستعمال الرمل، وعدسات تصحيح البصر، والساعة المائية، وتطويره لطريقة رصد الأفلاك والأجرام السماوية لا تقل أهمية عن تجربته في الطيران. وفي مجال الكتابة، صنع ابن فرناس أول قلم حبر في التاريخ، حيث صنع أسطوانة متصلة بحاوية صغيرة يتدفق عبرها الحبر إلى نهاية الأسطوانة المتصلة بحافةٍ مدببة للكتابة وهو القلم الذي نستعمله في وقتنا الراهن وبنفس الطريقة (قلم قابل للتعبئة بالمداد). وفي علم الفلك، طوّر بنفسه أول قبة سماوية في غرفة داخل منزله، كان الناس يجتمعون فيها لمشاهدة النجوم والغيوم والسحاب، وهو تقليد لا يزال موجودا إلى اليوم، ويعتبر من أكثر التجارب إثارة ومتعة لكثير من الناس.
ومن أعظم أعمال بن فرناس، ابتكاره لتقنية متطورة لتقطيع أحجار الكريستال الصلبة، بعد أن كانت تُرسل من أوروبا إلى مصر حصرا لتقطيعها. وقد استفاد الأوروبيون من ابتكاره وطوروه بعد ذلك حتى أصبحوا رواد صناعة تقطيع وتصنيع أحجار الكريستال منذ القرون الوسطى وحتى اليوم.
تكريما لاسم عباس بن فرناس، قامت الوكالة الأمريكية للفضاء ناسا بإطلاق اسمه على فوهة قمرية، كما وُضع تمثالا له أمام مطار في بغداد كتب عليه “أول طيار عربي وُلد في الأندلس”، وفي 14 يناير 2011 افتُتِح جسر عباس ابن فرناس في قرطبة على نهر الواد الكبير، في منتصفه تمثال لابن فرناس مثبت فيه جناحين يمتدان إلى نهاية الجسر.
سعيد الغماز
التعاليق (0)