هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه جريدة أكادير24 بأي شكل من الأشكال.

عصيد في مواجهة طلال لحلو…رأي من زاوية عقلانية بعيدة عن التخندق الأيديولوجي

كُتّاب وآراء

agadir24 – أكادير24

بحثتُ في إبداعات علماء الاجتماع حول تطور الأفكار وعلاقتها بالواقع، فوجدت مقولة لهابر ماس تستحق أن تكون عنوانا يلخص المناظرة التي جمعت أحمد عصيد بطلال لحلو. تقول مقولة هابر ماس “الفكر لا يرقى إلا في الفضاء العمومي، حيث يخضع للنقاش العقلاني والحجج المقنعة”.

المناظرة جمعت بين أحمد عصيد الذي يتصدر المشهد الإعلامي، ويتحدث عن أفكاره واقتراحاته بكل حرية في الإعلام العمومي وحتى الخاص. فيما نجد طلال لحلو لا يتمتع بالحرية عن التعبير عن فكره ومقترحاته في الأعلام، كما هو متاح لعصيد.

لذلك نجد الكل يعرف عصيد، فيما الكثيرين لم يسمعوا بطلال لحلو إلا في هذه المناظرة حيث فرض نفسه بتكوينه وتخصصه، ويتساءلون لماذا لا يتم استضافة مثل هذا الباحث والمثقف في الإعلام العمومي.

إذا أسقطنا مقولة هابر ماس على المتناظِرَيْنِ، فيمكننا القول إن الدفع بعصيد للتعبير الأحادي عن أفكاره في الإعلام العمومي، لا يسمح بتمحيص تلك الأفكار. وهو ما تم في هذه المناظرة، حيث اتضح أن عصيد، الذي يعرفه الجميع بحكم فتح القنوات أبوابها له، وجد صعوبة في طرح أفكاره أمام طلال لحلو. هذا الأخير، رغم أنه لا يستفيد من الإعلام العموم، ورغم أن الكثيرين لا يعرفونه، استطاع فرض ذاته وأفكاره، وجلَبَ اهتماما أكثر من عصيد.

عندما يتحدث أحمد عصيد في الإعلام العمومي، يبدو أنه متمكن من أفكاره ويدافع عنها بسهولة تامة. لكن أمام طلال لحلو، تحول عصيد من متمكن في أفكاره، إلى مثقف أصبح يجد صعوبة في الدفاع عن رأيه لأنه في مناظرة وليس وحيدا كما عوَّدَنا في المنابر الإعلامية. هنا تَظهر جليا القيمة المعرفية لما ذهب إليه هابر ماس.

ونعتقد أن الصعوبة التي ظهر بها عصيد في الدفاع عن أفكاره، مردها إلى محاوره طلال لحلو الذي يُطعِّم آرائه بالأرقام والبحوث والدراسات الأكاديمية. وهو ما يُبرز مرة أخرى، قيمة مقولة هابر ماس حين ربط رقي الفكر بالنقاش في الفضاء العمومي.    

الهدف من هذا المقال ليس مناقشة أطروحة الرجلين، ولا الخوض في تحديد المنتصر والمنهزم في هذا النزال الفكري. بل سأحاول الابتعاد عن التخندق الأيديولوجي الذي وقع فيه الكثير من المعلقين ومَن تفاعل مع هذه المناظرة. والهدف هو إعطاء رأي عقلاني، يطرح المناظرة في سياقها الاجتماعي وبعدها الإعلامي.

أولا يجب أن نرفع القبعة للمنبر الإعلامي الذي فتح المجال لنستمتع بمثل هذه المناظرات، التي تناقش قضايا فكرية مرتبطة بمجتمع ووطن يبحث في الأفكار المختلفة، ليحقق التقدم والتنمية المنشودة. مناظرة أبعدتنا ولو لوقت وجيز عن نقاش طوطو وتسريبات جبروت.

التفاعل الكبير الذي لاقته المناظرة في وسائل التواصل الاجتماعي، فاق حدود التوقعات ويعكس حاجة مجتمعية كبيرة جدا لمثل هذه البرامج. إذا كان حفل طوطو جمع حوالي 300.000 من الشباب، فإن المتابعين لهذه المناظرة فاق بكثير هذا الرقم.

الموقع الإلكتروني لقناة ميدي1 الذي بث المحاضرة، وصل عدد المشاهدات إلى حدود كتابة هذا المقال رقم 231.000. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مشاهدي القناة التلفزية مدي1، وتقاسم الحسابات للمناظرة في وسائل التواصل الاجتماعي، فإننا نكون أمام رقم يتجاوز بكثير المليون مشاهد.

أذكر على سبيل المثال قناة رحلة TV التي وصل فيها رقم المشاهدات 464.000 متفوقا على قناة ميدي1. الصفحة الرسمية لأحمد عصيد على الفايسبوك، بلغ فيها الرقم 25.000 مشاهدة، وبلغ الرقم على صفحة طلال لحلو 546.000 مشاهدة. أي أن المشاهدات على صفحة طلال لحلو بلغت 22 مرة عدد المشاهدات على قناة أحمد عصيد. وهو رقم بالغ الأهمية، أترك للمحللين والمتخصصين في علم الاجتماع تحليله وسبر أغواره.

لنشرع الآن في أطوار المناظرة لنقول إنها تمت باللغة الفرنسية، وجمعت بين متمكن من لغة موليير أكثر من الفرنسيين، وهو طلال لحلو الذي يؤلف بالفرنسية والانجليزية، ويتقن التحدث باللغة العربية. في المقابل أظهرت المناظرة، المستوى المتواضع لأحمد عصيد في التحدث باللغة الفرنسية، وكان في كثير من الأحيان يجد صعوبة في إيجاد المصطلحات المناسبة للتعبير عن فكرته. وظهر جليا في المناظرة، أن عصيد يجد صعوب في متابعة إيقاع حديث طلال لحلو بسلاسة وتمكن من اللغة.

هذا المعطى، لم يكن في صالح عصيد، وربما يشعر بالحرج الشديد، ولو كانت المناظرة باللغة العربية، لبرز، ربما، عصيد بمستوى مغاير.

هذا التفاوت في إتقان اللغة الفرنسية، يضعنا أمام إشكالية أخرى. طلال لحلو الذي يُوَجِّه انتقادات كثيرة للنموذج الفرنسي والغربي عموما، استنادا إلى أرقام وأبحاث علمية، يُتقن بل يتفنن في التعبير باللغة الفرنسية. علما أن إتقان اللغة عامل محدد في فهم ثقافتها وعمق أفكارها.

أحمد عصيد برز بمستوى في اللغة الفرنسية، جد متواضع أمام طلال لحلو. وإذا علمنا أن عصيد يدافع عن النموذج الغربي ويعتبره قدوة لتحقيق التقدم، وفي المقابل هو لا يتقن التحدث باللغة الفرنسية، يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل أحمد عصيد الذي لا يتقن لغة الغرب، يفهم جيدا عمق التفكير الغربي كما هو حال طلال لحلو الذي يتقن الفرنسية أكثر من الفرنسيين؟

هابرماس نفسه يعتبر اللغة أداة مركزية في بناء الفضاء العمومي، ويشدد على أن النقاش العمومي يتأسس على كفاءة لغوية تسمح بتداول الأفكار بوضوح، وتجعل البرهان قابلا للفهم والنقد. في هذا الإطار أستحصر مقولة هابرماس “اللغة ليست فقط وسيلة للإعلام، بل فضاء للفهم المتبادل، ولتَكْوِين الرأي والحكم العقلاني”. فاللغة ليست أداة فقط، بل هي البنية التي تساعد على الفهم وتفكيك بنيات المجتمع.

من هذا المنطلق الهابرماسي، يمكننا القول إن إتقان طلال لحلو للغة الفرنسية، ساعده على فهم جيد للمجتمع الغربي، ومكنه من تفكيك بنياته المجتمعية أكثر من أحمد عصيد.

يكفي أن أشير بهذا الصدد، إلى فكرة وحيدة. يعتبر عصيد أن الغرب يُعطي نموذجا راقيا وحضاريا في المساوات بين الرجل والمرأة، دون التدليل على طرحه بأرقام أو دراسات. في المقابل نجد طلال يُعبِّر عن فكر يفهم عمق الفكر الغربي حين يقول إن ما نشهده في العالم الغربي ليس تحررا للمرأة، بقدر ما هو فتح المجال للمرأة لدفعها إلى أدوار مدروسة، لكي تكون وراء جني أرباح كبيرة، في مجتمع رأسمالي لا يهتم بالمرأة بقدر اهتمامه بأرباحه المادية.

في هذا الموضوع، وبعيدا عن صوابية فكرة عصيد أم فكرة طلال، يبدو جليا لمن تابع المناظرة، أن طلال يفهم بعمق موضوع حرية المرأة في المجتمع الغربي. فيما عصيد يبدو كالمثقف المنبهر بالمرأة الغربية، دون معرفة عميقة بالميكانزمات التي تحكم وضعية المرأة في المجتمعات الرأسمالية. 

مسألة أخرى تميزت بها المناظرة. أحمد عصيد الذي كان يبدو في الإعلام العمومي كالمثقف المتمكن من أفكاره، ظهر في المناظرة أمام طلال لحلو، كمثقف يُتقن السرد الإنشائي، والتعبير الأدبي، البعيد عن النقاش العقلاني والحجج المقنعة، كما ذهب إلي ذلك هابر ماس.

وظهور طلال لحلو بمظهر المثقف المتمكن من أفكاره، والعقل العلمي الذي لا يطرح فكرة إلا واستند إلى دراسات أو أبحاث أو مقولات لعلماء في الموضوع، جعل عصيد في موقف لا يُحسد عليه، حيث أدرك المشاهد الفرق بين فكر طلال المرتكز على العقلانية والأبحاث العلمية، وفكر عصيد الذي برز على شكل آراء إنشائية وسرد أدبي لا يستند على لغة العلم المُطعَّمة بالأرقام، ولا على الفكر العقلاني الذي ينهل من الأبحاث والدراسات.

هذه هي الخلاصة التي يمكن أن نصل إليها بكل تجرد وموضوعية في المناظرة التي جمعت بين عصيد وطلال. ولا يفوتني في الأخير أن أقول إن لكل مهتم بموضوع المناظرة، رأيه في الموضوع. وأقول أيضا إننا في حاجة ماسة إلى الابتعاد عن التخندق الأيديولوجي سواء بمناصرة عصيد أو بمناصرة طلال.

فالتخندق الأيديولوجي يفقد صاحبه الرؤية المتبصرة، ويحرمه من التفكير بموضوعية ونجاعة. ويجب التركيز على حاجة المجتمع المغربي لفتح الإعلام العمومي أمام طلال لحلو كما هو مفتوح أمام أحمد عصيد. والهدف هو عدم السقوط في الرأي الأحادي الذي يمكن أن يتسبب في اختيارات مجتمعية فاشلة لا قدر الله، وبلادنا تبحث عن الطفرة التنموية والاقلاع الاقتصادي.

فتح المجال في الإعلام العمومي لطلال كما هو الحال بالنسبة لعصيد، له أهمية قصوى. بعد ذلك لا يهم إن كُنتَ متفق مع عصيد أم مع طلال.      

   سعيد الغماز-كاتب وباحث