هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه جريدة أكادير24 بأي شكل من الأشكال.

ظاهرة الشخصنة في المشهد الحزبي: هل لدينا قادة أحزاب أم أحزاب القادة؟

كُتّاب وآراء


مهما اختلفت التعاريف اللغوية والاصطلاحية الاكاديمية والقانونية فدراسات علم السياسة والقانون الدستوري تجمع على أن الأحزاب السياسية هي كيان تنظيمي ودورها يكمن في تأطير المواطنين وتنظيمهم وتكوينهم وتمثيلهم والدفاع عن مصالحهم وقضاياهم والتعبير عن انشغالاتهم وتطلعاتهم والعمل على الوصول الى السلطة لبلورة وتنفيذ الاختيارات والبرامج والمبادئ التي يبنى الحزب على أساسها، ورغم الاختلاف القائم بين الأحزاب الجماهيرية وأحزاب الأطر والكفاءات فيما يخص القيام بهذه الأدوار الا أنهما معا يشكلان العمود الفقري للبناء الديموقراطي بحيث لا يمكن الحديث عن الديموقراطية في غياب أحزاب سياسية تتنافس على الاستقطاب والتأطير وتحتكم الى صناديق الاقتراع ببرامجها وأفكارها ومواقفها. (موريس دي فيرجيه Maurice Duverger).
وما يميز الأحزاب السياسية المغربية وبالتحديد تلك التي خرجت من رحم الحركة الوطنية وناضلت من أجل نيل الاستقلال أنها قدمت التضحيات الجسام من أجل البناء الديموقراطي وتأصيل مفهوم الديموقراطية التمثيلية لكن هشاشة هذه التنظيمات السياسية وانحسار الممارسة الحزبية أدى الى ظهور العديد من الصعوبات والاختلالات رافقت الممارسة الحزبية ومن ابرزها :
أغلب التنظيمات الحزبية الوطنية تفتقر الى هوية سياسية واضحة والى خط ايديولوجي واضح يسمح للمواطن تصنيفها أو التمييز بينها. ولذا فالتعددية التي يعرفها المشهد الحزبي اليوم لا تعبر عن تعددية سياسية وايديولوجية وانما هي تعددية وهمية ومصطنعة وحين قراءة البرامج الانتخابية التي تقدمها الأحزاب الوطنية تكشف لك عن ضبابية الأفكار والتصورات السياسية والايديولوجية حيث تجد ترقيعا فجا وفي حالات أخرى مزجا غريبا للمصطلحات والمفاهيم التي تنتمي الى حقول معرفية وايديولوجية مختلفة(ماركسية – اشتراكية – ليبيرالية – قومية-..) كالمزج أو الخلط بين مفهوم العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة كمفهومين معارضين لمفهوم حرية المبادرة أو حرية السوق المنتميان للحقل الليبيرالي أو الجمع بين مفهوم الطبقة الاجتماعية ومفهوم الفرد أو النخب والاطر.. وما هو أفظع هو أن يختزل الاختلاف بين الأحزاب وبرامجها الانتخابية – فقط – بسبب اختلاف المسار التكويني أو الطبقي أو المهني لزعمائها وقادتها وليس على اساس مذاهبها وعقائدها الايديولوجية ليتم التمييز بين حزب أخنوش (رجل اعمال) – وحزب لشكر (المحامي) – وحزب بنكيران (الدعوي).. هكذا تعرف وتحدد الأحزاب عندنا وكأن الحزب هو حزب القائد / الزعيم، يجسد هويته وتاريخه وشعاره ولونه السياسي والايديولوجي ويتعامل مع قواعد الحزب بعقليته الفوقية المعصومة ويلوم وينتقد كل شيء الا نفسه وأفكاره، يطرد من ينافسه ويعارضه ويبعد من يشكك في زعامته ويسعى الى تنصيب نفسه وصيا على الحزب وعلى الديموقراطية كما يعتبر نفسه رسولا للحقيقة وقائدا للحزب لكن هذه المهمة الرسولية الطليعية لم تترجم على ارض الواقع الا الفشل ولم تنتج الا مزيدا من الفرقة والانقسام والتشظي.
أغلب التنظيمات الحزبية يغيب لديها المشروع المجتمعي الشمولي بأهدافه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وتستعوضه بالبرنامج الانتخابي ذو الخطاب التبشيري الذي يستعمل العواطف أكثر من اقناع العقول فغذت بالنتيجة مجرد برامج سياسوية صالحة فقط للدعاية السياسية ولا ترقى الى درجة المشروع المجتمعي الشمولي. وفي السنوات الأخيرة صارت الأحزاب الوطنية تضمن برامجها الانتخابية بالعبارات والجمل المقتطفة من الخطب الملكية مثل (الحكامة الجيدة – التنمية البشرية – الديموقراطية التشاركية – تشجيع الاستثمار – تحديث الادارة – تعزيز الجهوية – دولة الحق والقانون- اشراك المرأة والشباب..) وهو ما يدل على اقصاء الكفاءات والنخب الثقافية للحزب وتهميشها وعدم اشراكها في بناء وصياغة المشاريع المجتمعية الشمولية والقرارات المصيرية للحزب الشيء الذي أجج مشاعر احتقار النخبة السياسية والحزبية ودفع المواطن الى النظر اليها كحلقة انتهازية لا غير.
اكتفاء أغلب الاحزاب بالاعتياش على هامش السلطة والانشغال بتدبير اللحظة الانتخابية الأمر الذي حولها الى كيانات انتخابية تختفي بغروب شمس يوم الاقتراع وتكتفي الاحزاب بالمنافسة على تقلد المناصب والوظائف والصراع للفوز بالمقاعد البرلمانية او الجماعية بدل التنافس من أجل الوصول الى السلطة او المشاركة فيها لتنفيذ برامجها المجتمعية .
معاناة المشهد الحزبي من ظاهرة الانشقاق والتشظي والاستنساخ والتناسل واعدام الديموقراطية الداخلية وهو ما أسفر عن “ولادة” تنظيمات حزبية مشلولة القدرات ومرتبكة في علاقتها بالمواطن ومن أمثلة هذه الانشقاقات العبثية نذكر على سبيل المثال لا الحصر حزب الاستقلال الذي انشق منه حزب الشورى والاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي الذي انشق عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولتستمر سلسلة الانشقاقات عن حزب القوات الشعبية ومنها احزاب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي والحزب الاشتراكي..
لكن أهم ما يعانيه المشهد الحزبي المغربي هو الاستنكاف عن الاحتكام للديموقراطية الداخلية على مستوى فرز القيادات وغياب التداول الفعلي على القيادة الحزبية بما يرسخ مبدأ الشخصانية حيث يختزل العمل الحزبي في شخص القائد/ الكاتب الأول أو السيد الامين العام عوض الاحتكام الى العمل المؤسساتي، وتجد هذه الظاهرة الشخصانية سندها في القوانين الأساسية التي تحرص على تجنب الخوض في تحديد عدد الولايات المسموح بها حتى وفي حالة تحديدها لا يتم احترامها الا لماما وبعد تسويات مؤلمة، كما أنه لا تحدد بدقة مهام الكاتب الأول أو الامين العام أو المنسق الوطني لذلك تكون “محاسبته” مؤجلة الى غاية انعقاد المؤتمر الوطني العام باعتباره أعلى هيئة تقريرية “تحاسب” الحصيلة الانتخابية لا السياسية للحزب ولقائده !!!
شخصنة الحزب في شخص الزعيم أو القائد هي ظاهرة متفشية في غالبية الأحزاب المغربية حتى ان أسماءها الحزبية لا تتداول بكثرة عند العامة والخاصة وانما تعرف بأسماء قادتها وأمنائها العامين (حزب اخنوش – حزب لشكر – حزب بنكيران- حزب وهبي – ..) وهي ظاهرة متداولة في المشهد الحزبي المغربي منذ بداية ظهور التنظيم الحزبي في المغرب (حزب علال الفاسي – حزب بوعبيد – حزب عصمان- حزب احرضان- حزب بنسعيد ..) ويزيد في ترسيخ هذا التأليه الشخصاني لهوية الحزب مجموعة من العوامل من أبرزها منح شخص الأمين العام صلاحيات واسعة لا حدود لها تنتهي في اخر المطاف بتهميش باقي الهيئات التنظيمية للحزب الشبابية والحقوقية والنقابية والنسائية.. وتحول بالتالي دون تشكيل قيادات الظل تكون مؤهلة لخلافة القائد أو الأمين العام وهذا ما أسهم في صعوبة انجاز التغيير العمودي داخل الأحزاب المغربية مما أدى الى تنامي ظاهرة العزوف السياسي وتفاقم الانشقاق.
وتقلصت مبادئ وقوانين التنظيم الى مبدأ واحد وحيد وهو خضوع الأدنى للأعلى حتى صار شخص الأمين العام أعلى هيئة تقريرية وتنفيذية في الحزب وليس المكتب السياسي او المجلس الوطني كما غدا القائد فوق اي نقد وأية مساءلة وغدا كل من تحته خاضعا لسطوته دون ان توجد نواظم من أي نوع لعلاقاته بها او لعلاقاتها به ودون أن يكون بينها وبينه أية معيارية تنظيمية معترف بها.
في هذه الوضعية اللاتنظيمية يكون القائد او الأمين العام هو المبتدأ والمنتهى وكان لابد ان ينجب الأمين العام الكبير أمناء عامين صغار على صورته ومثاله في الجهات والأقاليم والفروع المحلية ليتحول الحزب الى جهاز ضابط كابت ومتسلط يحكم من في الأعلى على من في الأدنى ويهمش المسؤول غير المسؤول وتكمم الأفواه وتشل الحركة الحزبية ويتحول المناضلون الى أدوات تنفيذية لقرارات الامين العام او أثاث تنظيمي للتزيين خلال المهرجانات الانتخابية .
ان العلاقة التقديسية لشخص وشخصية الأمين العام أو القائد وتأبيده في منصبه لمدد غير محدودة تتعارض مع القوانين التنظيمية للأحزاب التي تلزم هذه الاخيرة بعقد مؤتمراتها مرة كل اربع سنوات للاستفادة من التمويل العمومي مع تحديد مدة الأنتدابات الخاصة بالمسؤوليات داخل أجهزة الحزب وعدد الأنتدابات التي لا يجوز تجاوزها وهو ما يكرس الزامية التداول على المسؤوليات وعدم الابقاء على نفس المسؤولين بصفة ابدية.. فهل التزمت أحزابنا بهذه القوانين التنظيمية؟ وهل نجحت في النهوض وفي تطوير اليات التنظيم الحزبي خدمة لتربية المجتمع وتوجيهه وتأطير مواطنيه وتجنيد طاقاته لمصلحة المجتمع والأمة؟
يقول المثل الألماني (نقيم التماثيل من الثلج ثم نشكو من أنها تذوب) وفي حالتنا السياسية والحزبية يمكن ان نقول بأننا (نقيم التماثيل من الصخر تم نشكو من أنها لا تتحرك) ففي الحالة الألمانية يقيمون التماثيل من الثلج ثم لا تلبت ان تذوب مانحة الفرصة لصنع تماثيل أخرى جديدة أي قيادات وزعامات جديدة أما في حالتنا نحن فان التماثيل عبارة عن جلاميد صخر لا تذوب وبالتالي لا تمنح الفرصة لصنع تماثيل أخرى أي زعامات حزبية جديدة !!!
ان القائد والزعيم السياسي في مجتمعنا لا يتغير مع المتغيرات بل ولا حتى يحاول أن يفهم هذه المتغيرات.. ورغم كل ما حدث ويحدث على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الا أنه لا يعيد النظر في مسلماته الشخصية.. ولقد تغيرت الظروف وتعقدت العلاقات والبنيات الاقتصادية وتبدلت المعطيات الاجتماعية واختلفت الرؤية السياسية عن ذي قبل لذا من الطبيعي أن تفرز العلاقات والتراكيب والبنيات المحدثة قيادات حزبية جديدة تملك ميزة التجانس مع الواقع الجديد لأنه لم يعد في مقدور القيادات الحزبية التقليدية أن تجتهد أو حتى أن تجهد نفسها اذا لزم الأمر لتتوافق مع هذه الظروف التي تتسيد حركة المجتمع في الفترة الأخيرة وان الاستقراء التاريخي لحركة العمل داخل الأحزاب تؤكد انه لم تحدث تغيرات أساسية في غالبية الأحزاب الوطنية وأن القيادات الحزبية التقليدية لا تزال تصر على احتكار مواقع الزعامة والوجاهة في هذه الأحزاب بل وتصارع وتحارب في شكل عنف تنظيمي غبي كل كفاءة حزبية جديدة تخالفها الرأي ونزلت هذه القيادات بالخلاف في الرأي الى مرتبة الخصومة والاسفاف وخلطت في صراعها بين ما هو شخصي وما هو تنظيمي كما أن الصحافة الحزبية أصبحت موصدة في وجه المخالفين في الرأي سواء كانوا يكتبون في القضايا الحزبية الخلافية أو في القضايا السياسية والفكرية التي لا خلاف فيها.
ان ما يصدم المتتبع للشأن السياسي والحزبي في بلادنا ان بعض الأحزاب الوطنية التي كانت تغري الشباب بالانتساب اليها لكونها تصنف في خانة الأحزاب الوطنية الديموقراطية والاشتراكية وكانت في السابق أداة للبسطاء في مقاومة الفساد والاستغلال والجهل لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية لكن مع مرور الزمن حصل انعطاف في المسار السياسي والايديولوجي لهذه الأحزاب بانحراف قادتها وزعمائها فتحولوا من قادة منتخبين الى شيوخ الزوايا الحزبية تقام لهم طقوس التعزيم لا تسقطهم الديموقراطية ولا يزيحهم عن القيادة والأمانة العامة الا الموت أو وراثة كرسي القيادة لأبنائهم وعائلاتهم… فهل لدينا قادة أحزاب منتخبين في دورات محدودة أم لدينا أحزابا تتوارثها عائلات “الزعماء” بالوصية والطاعة ؟؟؟

ذ. محمد بادرة