الرقمنة والذكاء الاصطناعي هو ربح الوقت والسرعة في الاشتغال. لذلك لن أطيل في المقدمات، وسأمضي مباشرة بالحديث إلى السيدة وزيرة التحول الرقمي، وهي المتخصصة في نظم المعلومات والذكاء الاصطناعي.
أعرف السيدة الوزيرة أنكِ تشتغلين هذه الأيام على مناظرة إفريقية حول الذكاء الاصطناعي، وإحداث قطب رقمي إقليمي عربي إفريقي يُعنى بالذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، بشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أجل تنمية الرقمنة والذكاء الاصطناعي على المستوى العربي والإفريقي. لكن دعيني أعرض عليكِ السيدة الوزيرة، هذه الحكاية الواقعية مع إدارتنا، وسأستعمل أدوات الذكاء الاصطناعي، لأجعلك أنتِ من تَعَرَّضْتِ لهذه الحادثة الواقعية.
تصوري معي السيدة وزيرة التحول الرقمي، وأنتِ المتخصصة في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، أن تعيشي هذه التجربة:
ملف إداري يخص مستقبلَكِ السيدة السغروشني، يتطلب توقيع الوزارة المعنية في الرباط والمسؤول الإقليمي في مدينة أخرى، لإرساله إلى إدارة في بلد أوروبي.
مادام الملف له هذه الأهمية، فبالتأكيد سوف تتابعين مراحله مرحلة بمرحلة.
تتصلين بالوزارة في الرباط وتسمعي الجواب التالي “الملف ديالك صيفطناه إلى المندوبية الإقليمية”
ثم تتصلين بالمندوبية الإقليمية ويكون الجواب “مازال ما وصلناش الملف ديالك”
بعد كل بضعة أيام تقومين بنفس الاتصالات، وهو ما يتسبب في هدر للطاقة مصحوب بالإرهاق النفسي، وتسمعين نفس الجواب من الطرفين.
تمضي الأيام، ولم يتبقى سوى 48 ساعة لإرسال الملف إلى البلد الأوروبي، لاستكمال الإجراءات المرتبطة بهذا الملف. تتصلين بالإدارة المعنية في هذا البلد الأوروبي، لإبلاغهم بأن ملفك مازال عالقا وتوقيع المسؤول لم بتم بعد. ويكون الجواب “ننتظر ملفكِ عبر المايل، وسيصلك الجواب في 24 ساعة”، نحن منذ سنوات نتعامل بالملفات الإلكترونية، يكفي إرسال الوثيقة موقعة عبر المايل، وهذا يكفي لاستكمال الملف.
تتصلين بالمندوبية الإقليمية في مدينتك، لكي تطلب من الوزارة في الرباط إرسال الملف عبر المايل أو الفاكس لتسريع الإجراءات الإدارية. تجيبك المندوبية أن الوزارة أبلغتها أن الملفات ترسل عبر البريد ولا يُسمح لها بإرسالها عبر المايل أو الفاكس.
أعرف جيدا، السيدة الوزيرة أنكِ سينتابك استغراب كبير لإدارة لا تؤمن بالمايل في القرن 21، وأنتِ المتخصصة في نظم المعلومات والذكاء الاصطناعي.
تتصلين بالوزارة في الرباط، وتسمعين نفس الجواب. تطلبين من الوزارة حلا مستعجلا لأن الملف الورقي خرج من الوزارة ولم يصل إلى المندوبية (ربما الذكاء الاصطناعي سرقه لأنه لا يؤمن بالرقمنة)، ولم يبق من الوقت سوى 48 ساعة لإرساله إلى البلد الأوروبي وإلا ضاع الحلم وضاعت الفرصة.
خلال 48 ساعة المتبقية، تقومين بالمستحيل: تنقلات إلى الوزارة بالرباط، اتصالات بكل من له صلة بالوزارة لعل الفرج يأتي على يديه … وزيد وزيد وزيد….كل هذا العناء الخيالي من أجل فقط إرسال ورقة عبر البريد الإلكتروني، وهو عمل يتطلب أقل من 5 ثواني في عالم الرقمنة والذكاء الاصطناعي.
السيدة وزيرة التحول الرقمي والإصلاح الإداري، هل تعلمين أن ملفا مشتركا بين إدارتنا الموقرة وإدارة في بلد أوروبي، إذا كانت معالجته تتطلب 30 يوما، فإن الفترة الزمنية التي تتطلبها المعالجة في البلد الأوروبي لا تتجاوز يومين، و28 يوما المتبقية كلها يستغرقها الملف في إدارتنا التي تنتظر الإصلاح الذي قد لا يأتي. هذا إذا لم يتعثر الملف بين إدارتين وبقي في عالم الغيب أو بلغة الذكاء الاصطناعي، عالقا في “كلاود” سحابة السماء. هذه المقارنة تعكس واقع التحول الرقمي في الإدارة المغربية في زمن الذكاء الاصطناعي. إدارة تؤمن بالإرسال الورقي عبر البريد وتكفر بالرقمنة في زمن الذكاء الاصطناعي.
لم أُرد أن أفصح عن الوزارة المعنية بهذه الواقعة الحقيقية، لأني متتبع لتطور الإدارة في بلدي، وأعرف جيدا أنها إدارة عرفت عموما تطورا ملحوظا: في الاهتمام بالمُرتَفِق، في حسن الاستقبال، في التنظيم، في سرعة معالجة الملفات، في تبسيط المساطر، في تطوير البنايات….. إلخ
لكن…توجهتُ إلى وزارة التحول الرقمي لأن الأمر يتعلق بالرقمنة الغائبة في تعاملات الإدارة المغربية، ونحن في القرن 21، وهذه مسؤولية وزارة التحول الرقمي التي تشرفين عليها السيدة السغروشني.
فشِلَت الوزير السابقة غيثة مزور في قطع ولو متر واحد في سباق التحول الرقمي، لأنها جعلت من الرقمنة والذكاء الاصطناعي “مودا” تُزيِّن بها خطاباتها، وكأن الوزارة تحولت إلى عارضة أزياء الذكاء الاصطناعي ولباس التحول الرقمي، عوض وضع برامج ملموسة تدخل في صلب المسار الإداري (circuit administratif) في الإدارة المغربية، لجعل المايل يغزو التعاملات الإدارية بدل طريقة إدارية تعود لسبعينيات القرن الماضي، وأقصد هنا المراسلات الورقية عبر البريد.
وبعد أن شملتك الثقة الملكية، وعينك جلالة الملك على رأس وزارة التحول الرقمي، استبشرنا خيرا لأن الوزارة بين يدي شخصية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، ومتشبعة بروح التحول الرقمي.
السيدة الوزير المحترمة…لا نريد الاستماع لمحاضراتِكِ في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي. لقد أصابتنا التخمة بسماع تلك المحاضرات، وحين نرى واقع إدارتنا تصيبنا “الدَّوْخَة”. لقد شبعنا من كلام “الذكاء الاصطناعي هو المستقبل”، و”الرقمنة فرصة للتنمية”، و”التحول الرقمي هو تقدم البلاد”… لا نريد تكرار تجربة الوزيرة السابقة التي جعلت من التحول الرقمي عسلا لتحلية كلامها، ومصطلحات للظهور بمظهر العارف بما يقع في العالم. لا نريد كلاما عن الذكاء الاصطناعي، وإدارتنا متشبثة بالمراسلات الورقية، ولا تتعامل بالمايل الذي يوصل المراسلة في ثوان معدودات.
أقول هذا الكلام، لأنكِ السيدة الوزيرة، على رأس وزارة التحول الرقمي والاصلاح الإداري، وليس وزارة التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. لا نريد تكرار التجربة الفاشلة للوزيرة السابقة.
لا نريد منكِ سوى أمرا واحدا، بعد أن خاب أملنا في تحولٍ رقميٍّ يحقق الطفرة التنموية المنشودة لبلادنا، والاقلاع الاقتصادي الذي سيجعل من بلدنا في مصاف الدول الناشئة…. بعد هذه الخيبة، لا نود منكِ سوى أمرا واحدا وهو جعل الإدارة تتخلى عن مراسلات إدارية تعود للقرن الماضي، وتستعمل أدوات القرن الحالي، وتعمم التراسل الالكتروني عبر البريد الإلكتروني، في زمن التوقيع الالكتروني.
إذا تحقق هذا المطلب البدائي في نظر عالم الذكاء الاصطناعي، وأنتِ سيدة العارفين بهذا العالم، فسنرفع لكِ القبعة عاليا. أما ما تعرضينه في محاضراتك حول الذكاء الاصطناعي، فهو في نظر المواطن الذي يعاني في صمت مع الإجراءات الإدارية، إنما هو ترف فكري، ونظريات موقوفة التنفيذ في بلادنا إلى حين ظهور المهدي الذكي على وزن المهدي المنتظر.
كتبتُ هذا المقال، لعله يصل إلى آذان وزارة التحول الرقمي، لتجد حلا لمعاناة العديد من المواطنين من إدارة لا تريد أن تستعمل المراسلات الإلكترونية. إدارة تؤمن بالمراسلات الورقية وتكفر بالمراسلات الرقمية، إدارة تريد البقاء على حالها البالي، وترفض أي تغيير في لباسها ولو أنه ينتمي لموضة تعود للقرن الماضي.
السيدة الوزيرة المحترمة: هل يُعقل في زمن الذكاء الاصطناعي أن يعاني المواطن مع مراسلة بين إدارتين؟؟؟ الأولى تقول إنها أرسلت الملف، والثانية تقول إنها لم تتسلم الملف، والمواطن في حيرة من أمره. وإذا أصابته “الدوخة” حين يسمع محاضراتك حول الذكاء الاصطناعي فلا تلومينه…
جميل السيدة الوزيرة تصريحك إن “جيتيكس إفريقيا يرسخ مكانة المغرب كقطب رقمي بالقارة”، لكن الأجمل هو إبداع برامج تنهي معاناة المواطن المغربي مع إدارة تؤمن بالمراسلة الورقية وتكفر بالرقمنة، ويبقى المواطن تائها بين “راه صيفطنا الملف ديالك” وبين “راه ما زال ما توصلنا بالملف ديالك”. لا نريد رقمنة مع وقف التنفيذ بلغة الأحكام القضائية… فالعقل البشري عاجز عن فهم هذه المفارقة، وحسبه في ذلك المقولة الشهيرة للفيلسوف سقراط:
كُلُّ مَا أَعْرِفُ هُوَ أَنِّي لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا”.
سعيد الغماز-مهندس كاتب وباحث في التنمية والذكاء الاصطناعي
التعاليق (0)