حين يرحل الوعي… وتُغتال الثقة

مجتمع

بقلم: عبد الله بن عيسى

تتكرر الأخطاء في حياتنا العامة والسياسية كأنها قدر لا فكاك منه. نعيش الوقائع ذاتها، ونسمع الخطابات ذاتها، ونتفرج على نفس المشاهد، ثم نتساءل في دهشةٍ بريئة.. لماذا لا يتغير شيء؟

الجواب بسيط ومؤلم في آنٍ واحد.. لأننا لا نتعلم، ولأننا فقدنا الحسّ بالدهشة، ولأننا اعتدنا على الفوضى حتى صارت نمط حياة.

تُغتال الثقة في هذا الوطن كل يوم بهدوء، كما يُقتل الضوء في آخر النفق. لم يعد الناس يصدقون الكلمات، مهما كانت منمقة، لأن التجربة علمتهم أن الشعارات لا تُطعم خبزًا، ولا تملأ فراغ الكرامة المهدورة. لقد تحولت السياسة إلى لعبةٍ بلا أخلاق، وأصبح الولاء معيار الكفاءة، والتطبيل طريق النجاة.

أولئك الذين يديرون المشهد يعرفون جيدًا أن المواطن المتعب لا يحتاج إلى الحقيقة، بل إلى “جرعة أمل”، حتى لو كانت وهمية، ولهذا السبب يُغذّون الوهم أكثر مما يُصلحون الواقع.

أن تكتب اليوم، يعني أن تخاطر بتوازنك النفسي. فالكلمة لم تعد وسيلة إصلاح، بل عبئًا يُحاسب عليه صاحبها. من يكتب من قلبه يُتهم بالمبالغة، ومن يتكلم بعقله يُتهم بالتمرد، ومن يرفض النفاق يُتهم بتهديد الاستقرار. وكأن الاستقرار هو أن نصمت جميعًا، وأن نعيش في دائرة مغلقة لا تتغير فيها الوجوه إلا لتعيد إنتاج نفس الخيبة.

ما يؤلم ليس النقد أو الهجوم أو التهم، بل رحيل الثقة. الثقة التي تُبنى بسنواتٍ وتنهدم في لحظةٍ واحدةٍ من الخداع أو الاستهتار. يمكن أن تنسى الأشخاص بفضل نعمة النسيان، لكن لا يمكنك أن تنسى خيانة الثقة، لأنها لا تموت، بل تبقى ندبة في الذاكرة والوجدان.

من المؤسف أن كثيرًا من الوجوه السياسية والإدارية في هذا الوطن تتعامل مع المناصب لا باعتبارها تكليفًا لخدمة الناس، بل فرصة لتوسيع النفوذ أو جمع المكاسب. يتحدثون عن التنمية بأفواههم، ويمارسون التهميش بأيديهم. يرفعون شعارات الشفافية، ويُدار كل شيء في الخفاء. يبيعون الأمل في موسم الانتخابات، ويختفون حين يحين وقت الحساب.

إن البقاء في نفس الدائرة لن يمنحنا نتيجة جديدة، ومواصلة الصمت ليست حكمة، بل مشاركة في الخطأ. الصدق اليوم أصبح تهمة، والوضوح صار مخاطرة. كل من يحاول أن يضيء شمعة في العتمة، يجد من يسعى إلى إطفائها، لأن النور يفضح وجوهًا تعودت على الظلام.

رحيل الوعي هو أخطر ما يمكن أن يحدث لأمة. حين يصبح الناس غير مبالين، حين يتعاملون مع الفساد كأمرٍ طبيعي، ومع الظلم كقضاءٍ محتوم، فإن المعركة تكون قد انتهت قبل أن تبدأ. الوعي هو السلاح الوحيد الذي يخشونه، لأنه لا يُشترى ولا يُباع. ولهذا يعملون على تخديره بالضجيج الإعلامي، وبالتفاهة المبرمجة، وبالرسائل التي تُكرّس فكرة “لا جدوى من التغيير”.

في هذا الزمن، صار النفاق مهارة، والانتهازية دهاء، والضمير رفاهية. صار البعض يُقنع نفسه بأنه يفعل الصواب فقط لأنه يسير مع التيار. لكن الحقيقة أن من يبرر الخطأ يشارك فيه، ومن يصمت عن الظلم فهو شريك في وقوعه. لا يمكن للوطن أن يتقدم ما دام الوعي يُعامل كعدو، والثقة تُستبدل بالشعارات، والكرامة تُستبدل بالصمت.

لقد تعبنا من المراوغة، من الكلمات الملساء التي لا معنى لها، من الصور التي تُغطي العفن السياسي بورق الوعود. تعبنا من أن نكون شهودًا على مسرح لا يتغير فيه سوى الممثلين، بينما يبقى النص كما هو.. وعود، تبشير، خيبة، وصمت.

لسنا ضد الوطن، بل ضد من يتاجر باسمه. لسنا ضد السياسة، بل ضد من جعلها حرفة للثراء. لسنا ضد الأمل، بل ضد من يبيعه في زجاجاتٍ مزيفة كل موسمٍ انتخابي. الوطن لا يحتاج إلى مدّاحين، بل إلى شجعان يقولون الحقيقة مهما كانت مرّة.

قد نبتعد حينًا، وقد نصمت حينًا آخر، لكننا لن ننافق. لأن الصدق لا يحتاج إلى جمهور، والكرامة لا تُقاس بعدد الإعجابات، والضمير لا يخضع للمساومات.

سنكتب من القلب إلى القلب، لأننا لا نريد أن نعيش بلا معنى، ولأننا نؤمن أن الكلمة الصادقة، حتى وإن لم تغيّر الواقع الآن، فإنها تزرع في الوعي بذرة ستنبت يومًا مهما طال الظلام.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً