بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
في مشهد دبلوماسي غير مألوف بواشنطن، وجد السفير الجزائري نفسه في موقف لا يُحسد عليه عندما حاول، أمام صحافي أمريكي، الادعاء بأن الجزائر كانت أول من اعترف بالولايات المتحدة. لكن ما إن تفوّه بتلك الجملة حتى تدخّل الصحافي، بقدر من السخرية الذكية، ليعيده إلى مسار الحقيقة التاريخية:
أول اعتراف رسمي بالولايات المتحدة جاء من المملكة المغربية سنة 1777، وليس من الجزائر التي لم تكن آنذاك سوى إيالة عثمانية.
لقد بدا السفير وكأنه يريد تزيين التاريخ أو تطويعه لخدمة خطاب سياسي، لكن الصحافي الملمّ بتاريخ الشعوب وعلاقاتها أوقفه بلطف صارم، مُذكّرًا بأنّ الوقائع ليست حبرًا على ورق، بل ذاكرة موثّقة لا تُمسح بالرغبات.
- المغرب… دولة بتاريخ سيادي لا يقبل الجدل
عندما أصدر السلطان سيدي محمد بن عبدالله (محمد الثالث) قراره التاريخي سنة 1777 بالاعتراف بالولايات المتحدة، كان المغرب دولة مستقلة ذات سيادة راسخة وحضور قوي على ضفتي الأطلسي والبحر المتوسط.
لم يكن ذلك الاعتراف مناورة ولا مجاملة، بل تعبيرًا عن رؤية استراتيجية ملكية تُدرك طبيعة التحولات العالمية وصعود قوة جديدة في الغرب.
لقد فتح السلطان أمام الأمريكيين أبواب الموانئ المغربية، ووقّع معهم لاحقًا أقدم معاهدة صداقة ما تزال سارية، وهو ما جعل المغرب أوّل دولة في العالم تعترف رسميًا بالولايات المتحدة، في وقت كانت فيه القوى الأوروبية تتوجّس من ولادة هذا الكيان الجديد.
إنّ هذا السبق التاريخي لم يأتِ من فراغ، بل كان امتدادًا لقرون من الدولة المركزية المغربية التي أسس ملوكها عبر المرابطين والموحدين فالسعديين ثم العلويين تقاليد سياسية ودبلوماسية متينة.
- الجزائر العثمانية… معاهدة 1795 ليست اعترافًا
في المقابل، فإن الجزائر سنة 1795 لم تكن دولة مستقلة كي تعترف بالولايات المتحدة، بل كانت إيالة خاضعة للباب العالي.
ما جرى توقيعه حينها كان اتفاقًا ماليًا لوقف هجمات الأسطول العثماني على السفن الأمريكية في البحر المتوسط.
معاهدة أشبه بـ”هدنة بحرية” لا علاقة لها بالاعتراف السياسي بين دولتين.
هذا الفارق الجوهري هو ما حاول السفير القفز عليه، لكنه اصطدم بذاكرة صحافي لا يُمكن خداعه بسهولة، وبأرشيف تاريخي لا يقبل المساومة.
- الصحافي الأمريكي… حين يكون التاريخ حليفًا
لم يكن تدخل الصحافي مجرد تصحيح عابر، بل كان درسًا دبلوماسيًا في احترام التاريخ ووزن الحقائق.
فالرجل يعرف تاريخ بلده، ويعرف من دعمه في اللحظات الأولى لاستقلاله، ومن قايضه بالسلام البحري مقابل المال.
وقد أعاد بصوته الهادئ ترتيب المشهد أمام السفير، مُذكّرًا بأنّ الدبلوماسية لا تقوم على التلاعب بالذاكرة، وأنّ الحقائق، مهما طال الزمن، تبقى أقوى من كل الشعارات.
- ملوك المغرب… صُنّاع الفضل الذي نقطف ثماره اليوم
منذ قرون، صاغ ملوك المغرب سياسة خارجية قائمة على السيادة والذكاء الاستراتيجي:
-المرابطون والموحدون رسخوا قوة المغرب الإقليمية.
-السعديون ثبّتوا حضوره الأطلسي.
-العلويون وضعوا أسس العلاقات الدولية الحديثة.
وعندما اتخذ السلطان محمد الثالث قرار الاعتراف بالولايات المتحدة، فقد وضع حجر الأساس لشراكة طويلة لا تزال متينة إلى اليوم.
والعهد الجديد بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله يواصل تعزيز هذا الإرث عبر دبلوماسية هادئة وفعالة جعلت المغرب حاضرًا بثقة في كل القارات، وشريكًا موثوقًا في الأمن والتنمية والاستقرار.
- التاريخ لا يَرحم… لكنه ينصف
الحادثة برمتها ليست مجرد زلة دبلوماسية، بل تذكير بأنّ التاريخ ليس ملكًا لأحد كي يطوّعه كما يشاء.
وحدها الدول ذات الجذور العميقة (كما هو حال المغرب) تملك من الوثائق ما يكفي لتُكتب الحقيقة بأحرف ثابتة، مهما حاول البعض إخفاءها أو تلوينها.
فحين يُستدعى الماضي إلى طاولة الحاضر،
يصمت الادعاء… وينطق التاريخ.
