بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
يُعدّ الماء في المغرب شريان الحياة وأساس الاستقرار البشري والاقتصادي منذ أقدم العصور. وقد أدرك أجدادنا، بحكم تجربتهم الطويلة في مواجهة قسوة المناخ وتقلّب الفصول، أن الحفاظ على كل قطرة ماء هو سرّ البقاء في أرض تجمع بين الجبال الشاهقة والصحارى الواسعة. فابتكروا أنظمةً تقليدية متطورة لحماية هذا المورد الثمين، وأقاموا توازناً بين الإنسان والطبيعة قلّ نظيره في العالم.
- الأنظمة التقليدية للمياه
عرف المغاربة القدماء نظام الخطارات (الفقارات) في الجنوب الشرقي، وهو هندسة مائية عبقرية تنقل المياه الجوفية من مسافات بعيدة دون تبخّر. كما أبدعوا في النتفيات، وهي آبار أو حفر صغيرة لتجميع مياه الأمطار والجريان السطحي، تُستخدم بشكل رئيسي في المناطق الجبلية والصحراوية لتأمين شرب الماشية والري في فترات الجفاف.
إلى جانب ذلك، اعتمدوا على السواقي، وهي قنوات سطحية تنقل مياه الأنهار والينابيع إلى الأراضي الزراعية، وعلى الصهاريج والآبار الجماعية التي تمثل نظاماً جماعياً لتخزين المياه، مع نظام الوقت أو الدور لتوزيعها بشكل عادل بين الفلاحين.
هذه الممارسات لم تكن مجرد حلول تقنية، بل كانت أيضاً قيم حضارية وأخلاقية. فقد رسّخت المجتمعات المغربية القديمة مبدأ الاقتصاد في الماء، انسجاماً مع التعاليم الدينية والأعراف المحلية، مع التحذير من الإسراف أو تلويث المياه.
- أثر هذه التقنيات على البيئة والمجتمع
لم تكن هذه النظم مجرد أدوات ري، بل أسهمت في حماية التربة من التعرية، والحفاظ على الغطاء النباتي، ودعم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات القروية. فالزراعة المنتظمة والمراقبة الجماعية للماء عززت العدالة الاجتماعية والتضامن بين السكان، وضمنّت استمرار الحياة في مناطق صعبة الموارد.
- مرحلة الدولة الحديثة
مع قيام الدولة الحديثة، أصبح الوعي بأهمية الماء جزءاً من السياسات الوطنية. فقد أدرك الملك الحسن الثاني رحمه الله أهمية الأمن المائي في التنمية منذ ستينيات القرن الماضي، فكان من رواد بناء السدود الكبرى وتطوير شبكات الري الحديثة، مما جعل المغرب نموذجاً إفريقيا في إدارة المياه.
وتتواصل الجهود اليوم بقيادة الملك محمد السادس نصره الله، الذي أطلق البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، ويتضمن تحلية مياه البحر، وإعادة استعمال المياه العادمة، وترشيد الاستهلاك، وحماية الفرشات المائية، إضافة إلى تعزيز ثقافة مائية قائمة على المسؤولية البيئية والاجتماعية.
- خلاصة
إن حماية الثروة المائية في المغرب ليست قضية تقنية فحسب، بل هي مسار حضاري مستمر. من الخطارات والنتفيات والسواقي التقليدية إلى السدود الحديثة وبرامج الدولة، يظل الماء رمزاً للحياة والتضامن والازدهار. وفي ظل رؤية الملوك، يواصل المغرب تعزيز مكانته كنموذج في الإدارة المستدامة للموارد المائية، محافظة على إرث الأجداد ومتطلعة نحو مستقبل آمن ومستدام.
