تعلمنا الشجرة الحكمة، فهي متشبثة بالأرض بجذورها؛ كرمز للثبات والحضور هنا والآن، وواقفة بشموخ بجذعها؛ كدليل على الصمود والتصدي لنوائب الدهر، وفاتحة أغصانها إلى السماء؛ لمعانقة المستقبل والأمل.
إنها الشجرة أينما كانت وأينما وجدت، لكن عندما يتعلق الأمر بشجرة الأركان فبالإضافة إلى الحكمة التي تجد صداها في الداخل بعيدا عن الآخر، تعلمنا الحب. حب الاخر الذي تهبه ذاتها ووجدانها، وتنذر حياتها من أجله. نعم إنه الحب بلغة خاصة لا يفهمه ولا يفك طلاسمه الا الإنسان المغربي الأمازيغي. إنها قصة عشق لا تدرك أحداثها، بل تعاش كل لحظة وحين وعلى مر السنين.
لنرجع إلى التاريخ علنا ندرك أن قصة العشق هاته كتبت بكلمات خاصة، ونقشت في الذاكرة. لقد أصبحت حالة حب خالدة بطلها وحدة الانسان الامازيغي والإركان المغربي. فكيف يمكن للشجرة كيفما كانت هويتها وماهيتها أن تصمد للجفاف، وان تكون سخية معطاءة رغم الحر والقر ان لم تكن شجرة الأركان.
إنها شجرة لا كباقي الشجر، وشجرة لا كالشجر. شجرة خلقت لهذا الانسان، وعشقت هذا الانسان. وشجرة لا كالشجر؛ لأنها قاومت لتكون هنا وليس في أي مكان..
مع شجرة الأركان لم تعد الحكمة مطلوبة لذاتها، بل أصبحت رغبة في الانسان، ومن أجل هذا الانسان.
وقصة العشق لا تكتمل دون حب متبادل بين العاشق والمعشوق، لذلك حاول الانسان المعشوق من طرف شجرة الاركان أن يكون في مستوى العشق الذي وهبته إياه هذه الشجرة السخية والكريمة. لقد جعل هذا الإنسان من هذه الشجرة طرفا أساسيا في وجوده، ثقافته، في تاريخه وحتى في الحكم التربوية التي يلقنها لأبنائه.
فوجوده لا يصح ولا يستقيم بدون هذه العلاقة التي تترسخ يوما عن يوم، والتي أصبحت محكومة بالألفة والتعايش. وهي جزء من ثقافته، لأنها تعكس عاداته وتقاليده. وهي جزء من تاريخه؛ لأنها تؤرخ لماضيه وحاضره ومستقبله، وتختزن موروثه الثقافي والحضاري.
وبما أن كل ثقافة لا تضمن الإستمرار لنفسها دون استمرارية عبر الأجيال، نسج هذا الرجل الأمازيغي من شجرة الأركان حكما تربوية بلغها لأبنائه.
ان قصة الاركان والانسان قصة عشق كاملة وتامة، لأنها بنيت على حب من كلا الطرفين.
والعشق لا يدرك دون قصة تروى أو حكاية تحكى، وحكاية الإنسان والأركان واحدة وتلاوينها شتى، لكن للحكاية التالية الف معنى ومغزى، يدركها اولو الألباب ويفقهما ذو القلوب المبصرة.
ذات صباح جميل استيقظ الرجل الذي بلغ من العمر عتيا، وقام بمناجاة ربه بعد صلاة الفجر وتلاوة القرآن ، وحمل عصاه التى يتكأ عليها، وخرج قاصدا معشوقته ليبوح لها بما راه في منامه. اقترب الرجل من شجرة الأركان، وعانقها عناق الأحبة، وقال لها بصوت رخيم لا يخلو من نبرة صوفية: حبيبتي لقد أفزعني حلم البارحة ليلا، ولم أذق للنوم طعما، وها أنا ذا بين يديك أطلب منك مواساتي ومحو همي.
أجابت الشجرة بهدوء: هكذا أنت أيها الإنسان، لا شيء يعجبك في هذه الحياة، وانت دائم الرغبة ولا تطمئن على حال. احكي لي ماذا رأيت، علي أساعدك أيها المهموم؟
نهض الرجل وبدأ ينفض التراب من برنسه، وقال: لقد رأيت حشدا غفيرا من الناس، من كل بقاع العالم يتجهون صوبك، وعندما وصلوا اليك بدأوا يتزاحمون ويتدافعون، وفجأة ادركوا بأنك ميتة فتفرقوا في الحال الا طفلا واحدا هو حفيدي الصغير بقي واقفا الى جوارك.
ضحكت شجرة الاركان حتى اهتزت الارض من تحت الرجل، فقال مستغربا خائفا ما بك أيتها الشجرة، أراك تضحكين وانا في غاية الهم والحزن.
فأجابت: ما رأيت في منامك رؤيا صادقة، بل هو بشارة.
قال الرجل مندهشا: رؤيا صادقة، بشارة، كيف؟
ردت الشجرة بصوت كله ثقة ورزانة: الحشد البعيد قتلني، لان الطمع اعمى بصيرتهم، فلا شيء يهمهم سوى نيل خيراتي، فعلاقتي بهم ستموت ولو طال الزمن. أما حفيدك فهو وريث حبك لي، فبه سأضمن استمراري وقصة عشقي التي لا تنتهي.
ابتسم الرجل وانفرجت أساريره، وقال: الان فهمت مغزى الحلم الذي راودني، وعانق الشجرة بقوة.
صاحت الشجرة: على رسلك يا رجل، لقد أوشكت ضلوعي ان تنفجر.
رد الرجل مبتسما: لقد زرعت فيّ الامل من جديد، وارى فيك امتدادا لحياتي، ولحياتي أحفادي.
همست الشجرة في أذن الرجل، لا تخف فمادام حبك لي صادق، وحرصت على أن تعلمه لأبنائك وأحفادك فقصة حبنا ستبقى خالدة. فانت وانا واحد بحكمة وحب.
التعاليق (0)