بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
في خطوة تعكس عراقة التراث المغربي وفاعلية سياساته الثقافية، صادقت اللجنة الحكومية لصون التراث غير المادي التابعة لليونسكو، خلال اجتماعها بالهند، على تسجيل القفطان المغربي ضمن قائمتها التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية. هذا القرار لم يكن مجرد اعتراف فني بلباس تقليدي، بل محطة استراتيجية تؤكد قدرة المغرب على حماية تراثه، وتعزيز مكانته الثقافية والدبلوماسية في المحافل الدولية.
– التراث بين التاريخ والهوية
القفطان المغربي ليس لباسًا عاديًا، بل هو منظومة ثقافية حية تمتد جذورها لثمانية قرون، بدءًا من العصور المرابطية والموحدية، مرورًا بالدولة السعدية والعلوية، وصولًا إلى الاحتفالات الرسمية والبيعة السلطانية. كما يمثل القفطان جسراً بين الأجيال، ينقله الحرفيون والمعلمون من أم إلى ابنتها، ومن تلميذ إلى آخر، محققًا بذلك استمرارية فنية واجتماعية لا تقتصر على الجماليات، بل تشمل الطقوس والوظائف الاجتماعية المرتبطة به.
ملف المغرب أمام اليونسكو جاء شاملاً، حيث وصف الحرف والتقنيات الخاصة بالطرز اليدوي، السفيفة، العقيق والتنبات، فضلاً عن دور الحرفيين والمجتمعات الحاملة لهذا التراث. هذه المقاربة أظهرت بوضوح أن القفطان ليس مجرد قطعة لباس، بل “تراث حي” يعكس هوية المغرب الثقافية والاجتماعية، بعيدا عن أي استخدام سياسي أو توظيف لحظي.
– دبلوماسية ثقافية واعتراف دولي
أكثر ما يبرز في هذا الانتصار الثقافي هو الدعم الدولي الذي حظي به الملف المغربي، إذ دفعت دول مثل إسبانيا، فرنسا، باراغواي، هايتي والإمارات، بالاعتراف بالقيمة التاريخية للقفطان، ما يعكس تقديرًا عالميًا للتراث المغربي ويؤكد أصالته.
في المقابل، أظهرت هذه العملية، بشكل عملي وموثق، ضعف الادعاءات الأخرى حول نسبية القفطان، إذ تم التعامل معها بالحجج والوثائق وليس بالشعارات، ما يُبرز جدية المغرب في الدفاع عن تراثه عبر دبلوماسية ثقافية فاعلة، قائمة على العلم والتوثيق، وليس على الصراعات الإعلامية أو المناكفات السياسية.
– البُعد الرمزي والقانوني للقرار
تسجيل القفطان ضمن القائمة التمثيلية لليونسكو يضيف بعدًا قانونيًا ورمزيًا، فهو يحمي هذا التراث من أي محاولات استغلال أو تزوير، ويتيح له الاستفادة من برامج الدعم والتوثيق ونقل المهارات، كما يفتح الباب أمام التعاون الأكاديمي والبحثي مع مراكز ثقافية وجامعات حول العالم.
من ناحية رمزية، يرسخ القرار الهوية المغربية، ويعزز مكانة المملكة كحامية لتراثها ومُرَسِّخ للتنوع الحضاري والثقافي. كما يسلط الضوء على أهمية الثقافة كأداة قوة ناعمة، ورافعة للسيادة، في زمن تتسارع فيه المنافسات الإقليمية والدولية على الرموز الثقافية.
– تعزيز الاستدامة والمهارات التقليدية
إلى جانب الأبعاد الرمزية والدبلوماسية، يمثل القرار فرصة حقيقية للحرفيين المغاربة، إذ يعزز الطلب على المهارات التقليدية ويحفز استدامة الحرف المرتبطة بالقفطان، مع إمكان تطوير مشاريع للتدريب والنقل بين الأجيال، ما يضمن استمرار هذا التراث دون اندثار.
– الخلاصة
تسجيل القفطان المغربي ضمن التراث العالمي لليونسكو ليس مجرد إنجاز ثقافي، بل هو انتصار للهوية المغربية، وتجسيد لكيفية الجمع بين التقاليد العميقة والدبلوماسية الذكية والتخطيط المؤسسي الدقيق. إنه نموذج يُظهر أن التراث لا يُسرق، والتاريخ لا يُزوَّر، وأن الحق يظل حقًا مهما علا الضجيج.
المغرب اليوم، بقفاطنه وحرفه وذاكرته الاجتماعية، يقدّم للعالم شهادة حية على عمق حضارته وثراء تراثه، ويؤكد أن الثقافة هي جسر بين الماضي والمستقبل، وبين الوطن والعالم.


التعاليق (0)