بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام والصناعة الثقافية
تتواصل في الأقاليم الجنوبية للمملكة مؤشرات ترسيخ نموذج تنموي متكامل، يجعل من الرأسمال البشري محورًا استراتيجيا، ومن التكوين المهني رافعة مركزية لمغرب الغد. وفي هذا السياق، شكلت زيارة وفد دبلوماسي إفريقي رفيع المستوى لمدينة العيون محطة جديدة لتثمين الرؤية الملكية في هذا المجال، وإبراز الدور المتنامي للمملكة كفاعل قارّي في إعداد أجيال جديدة من الكفاءات الإفريقية.
- مركزية الرؤية الملكية في هندسة عرض التكوين المهني
لم تكن إشادة السفراء الأفارقة بالرؤية الملكية مجرد مجاملة دبلوماسية، بل تعبيرًا عن تقدير واضح لسياسة عمومية تراكمت نتائجها واقعيا خلال العقدين الأخيرين. فقد عمل المغرب، وبتوجيهات ملكية، على إعادة هيكلة منظومة التكوين المهني، من حيث البنيات التحتية، والمقاربات البيداغوجية، ومنظومة الشراكات، إلى جانب توجيه استثمارات معتبرة نحو الأقاليم الجنوبية لجعلها منصات إقليمية لتأهيل الشباب.
وتجسد هذا التوجّه من خلال إطلاق مشروع مدن المهن والكفاءات الـمتوزعة على مختلف جهات البلاد، ومنها مدينة المهن والكفاءات بالعيون التي استقبلت الوفد الدبلوماسي، والتي تعد مختبرًا لبرامج موجهة لـ”مهن المستقبل” المرتبطة بالطاقات المتجددة، اللوجستيك، الصناعة، الصحة، الرقمنة، والفلاحة المستدامة.
- أبعاد استراتيجية للتعاون الإفريقي: أرقام تكشف التحول
أكدت العروض التي قُدمت للسفراء أن التعاون المغربي الإفريقي في مجال التكوين المهني انتقل من مرحلة المبادرات المحدودة إلى سياسة شراكة هيكلية واسعة، مدعومة بأرقام دالة:
-113 اتفاقية تعاون تم توقيعها مع دول إفريقية في مجال التكوين المهني.
-1200 متدرب إفريقي يتابعون تكوينهم حاليًا بالمغرب في تخصصات متعددة.
-9570 متدربًا استفادوا من برامج التكوين منذ 2005.
-975 مكوّنًا إفريقيًا تلقّوا تكوينًا منذ 2009 في إطار نقل الخبرات.
-إحداث تحالف إفريقي لتطوير التكوين المهني سنة 2017، كإطار قاري مؤسساتي للتنسيق واستشراف حاجيات القارة.
هذه الأرقام تؤكد أن المغرب تجاوز دور “البلد المضيف” للمتعلمين نحو دور المساهم في بناء نخب مهنية إفريقية قادرة على دعم مسارات التنمية الاقتصادية في بلدانها.
- العيون.. من مدينة جنوبية إلى قطب إفريقي صاعد
اختيار مدينة العيون لاحتضان هذا اللقاء لم يكن اعتباطيًا؛ فالجهة تشهد طفرة تنموية غير مسبوقة، جعلتها تتحول إلى مركز خدماتي وتكويني محوري في الصحراء المغربية. وقد وقف السفراء خلال زيارتهم على نماذج ملموسة في هذا المجال، من بينها:
-ثانوية عثمان بن عفان الرائدة كنموذج للتعليم عالي الجودة.
-كلية الطب بالعيون التي تشكل رافعة استراتيجية لتكوين الأطر الصحية.
-المعهد الإفريقي للأبحاث في الفلاحة المستدامة التابع لجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، والذي يعد فضاء للبحث والابتكار في مجالات تحظى باهتمام إفريقي واسع.
كما اطلع الوفد على مشاريع بنيوية كبرى قيد الإنجاز، عززت قناعتهم بأن الصحراء المغربية أصبحت قطبًا اقتصاديًا وخدماتيًا متكاملا، وممرًا طبيعيًا نحو العمق الإفريقي.
- مغزى الإشادة الإفريقية: قراءة تحليلية
تعكس التصريحات الصادرة عن السفراء الواقع الجديد للمغرب داخل إفريقيا، القائم على:
- قوة الدبلوماسية التنموية: حيث يعمل المغرب على نقل خبراته بدل الاكتفاء بالخطابات العامة.
- منطق المنفعة المتبادلة: تكوين الشباب الإفريقي بالمغرب يساهم في خلق كفاءات يستفيد منها الاقتصاد الإفريقي ككل.
- الاستثمار في الإنسان: وهو الاختيار الذي ركز عليه الملك محمد السادس في معظم خطاباته المتعلقة بإفريقيا.
- ترسيخ النموذج المغربي كمرجع قاري في تطوير التكوينات المهنية الموجهة نحو المستقبل، خصوصًا في الطاقات المتجددة والفلاحة المستدامة والرقمنة.
- تثمين دبلوماسي وترسّخ صورة المغرب
أشاد سفير الكاميرون، عميد السلك الدبلوماسي بالرباط، بجودة البنيات التحتية بالمغرب وبشبكة تضم أكثر من 500 مركز للتكوين المهني و12 مدينة للمهن والكفاءات، معتبرًا أن هذه المنصات تضاهي كبريات مدارس الهندسة العالمية. كما شدد رئيس المؤسسة الدبلوماسية على أن المبادرة تهدف إلى إبراز “النموذج التنموي القائم على الابتكار والتكوين كأدوات لإعداد أجيال المستقبل”.
هذه الشهادات جاءت لتؤكد أن المغرب لم يعد بالنسبة للدول الإفريقية بلدًا شقيقًا فحسب، بل شريكًا مؤثرًا في بناء القدرات البشرية للقارة.
- خاتمة: المغرب يصنع المستقبل بعمقه الإفريقي
تظهر زيارة السفراء الأفارقة للعيون مرة أخرى أن المغرب ينسج نموذج تعاون إفريقي قائم على التضامن، تقاسم الخبرات، وتكوين الإنسان باعتباره حجر الزاوية لأي مشروع تنموي ناجح.
لقد أصبحت الصحراء المغربية اليوم ـ بشهادة الدبلوماسيين ـ قطبًا اقتصاديًا وتكوينيًا واعدًا، وفضاءً يعكس التحولات العميقة التي تشهدها المملكة في تعزيز اندماجها القاري.
وما هذا الاهتمام الإفريقي المتزايد إلا دليل على أن الرؤية المغربية في مجال التكوين المهني لم تعد مشروعًا وطنيًا فحسب، بل أضحت ورشة قارية تساهم في إعداد جيل جديد من الكفاءات التي ستقود مستقبل إفريقيا.
