ذ. محمد بادرة
يعاني اطفال الاسر الفقيرة خلال فترة العطل الصفية من “كابوس” الحاجة و الفراغ مما يجبر اسرهم للدفع بهم نحو سوق العمل العشوائي وهو ما يعتبر نوعا من العنف ضد طفولتهم وانتهاكا لحقوقهم ويجعلهم اكثر عرضة للضياع والعنف والاستغلال والانحراف، ومن التناقضات الصارخة في مجتمعنا الذي تغيب فيه العدالة الاجتماعية وجود فجوة واسعة بين ابناء الاغنياء والفقراء في قضاء عطلتهم الصيفية، فمن الاطفال من يستطيع قضاء عطلة الصيف في اجواء من الراحة والاستجمام على شواطئ البحر وفي المنتجعات والمخيمات الراقية وفي الفنادق المصنفة والبيوت المفروشة والسفر الى البلدان الاجنبية الراقية في مجالي السياحة والترفيه رفقة اسرهم وذويهم قصد أخذ قسط من الراحة والترفيه من اعباء الدراسة مع ممارسة هواياتهم المفضلة خلال عطلة الصيف، اما الاخرون من ابناء الاسر الاجتماعية المسحوقة فيجبرون على العمل خلال عطلة الصيف وهو ما يعتبره خبراء علم الاجتماع وعلم النفس بانه نوع من العنف ضدهم وانتهاكا لحقوقهم وهو ما يجعلهم اكثر عرضة للاضطهاد والميز والانحراف.
وفي احسن الاحوال تضطر بعض هذه الاسر الفقيرة الى ترك اطفالها للعب في الشوارع او التسكع اليومي بين المحطات الطرقية والاسواق الاسبوعية .. وبالنسبة لأطفال القرى والبوادي قد يغامرون بالسباحة في الانهار والوديان ومياه السدود وهو ما قد يهدد حياتهم في غياب وسائل الوقاية من الغرق.
ان عمالة الاطفال في فصل الصيف اوفي باقي فصول السنة هي من المشكلات الاجتماعية المفصلية التي تواجه بلدنا ومجتمعنا واسرنا ليس فقط بحكم كشفها عن عجز الابنية الاجتماعية والتربوية بمختلف انساقها عن اداء ادوارها المتوخاة بشكل سليم ومتكامل وانساني وليس فقط بدعوى اثارها وتداعياتها البالغة السلبية التي تطال في المحصلة النهائية قطاعات المجتمع كافة وانما فوق هذا وذاك لارتباطها بشريحة الاطفال هؤلاء الذين يمثلون معقد الآمال ويرتكز اليهم مصير الامة ومستقبلها الذين يجسدون بدورهم طاقة هائلة خلاقة ينبغي استثمارها واعدادها الاعداد الملائم لمجابهة التحديات الخطيرة التي تفرضها الالفية الثالثة المدججة بقيم العولمة .
ان الوعي بخطورة ظاهرة عمالة الاطفال وابعادها لا يزال بالرغم من صيحات التحذير التي ترتفع هنا وهناك وعيا بائسا هزيلا لا يتناسب البتة مع ضراوة تلك الظاهرة واستفحال شانها وفداحة انعكاساتها.
وثمة حزمة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تتضافر فيما بينها تفضي الى انبعاث وتصاعد ظاهرة عمالة الاطفال ويصعب حصر تلك العوامل الا انه يمكن الاستئناس ببعض اسباب الظاهرة :
-العامل الاقتصادي حيث في ضل غياب العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الدخل واستشراء الفساد ان يدفع الفقر بكثير من الاسر المهمشة الى القاء اطفالها في معترك الحياة العملية وفي مراحل مبكرة من اعمارهم تحت وطأة الظروف الاقتصادية البالغة القسوة والمستويات المعيشية المتدنية وتختار هذه الاسر غالبا فصل الصيف دون غيره من الفصول كفترة ملائمة لألقاء ابنائها في اتون العمل المؤقت او الدائم فهي تسلمه لرب العمل او صاحب الورشة او الضيعة الفلاحية (الفتاة خصوصا) او تقوم بتجهيز عربة مجرورة لبيع الفواكه الصيفية ( التين الشوكي- “الهندية”) او بيع السجائر (بالتقسيط – “الديتاي”) او بيع الحلويات والمثلجات في الشواطئ والمنتزهات الصيفية او العمل في المطاعم والمقاهي الشعبية او بيع الهدايا و”البروك” في المواسم الدينية والمهرجانات وكلها “مهن” لا تتطلب خبرة خاصة .. وهناك من الاسر من يدفع بأبنائها في اعمال خطرة مثل اوراش النجارة والحدادة والبناء.. وهو ما قد يعرضهم لانتهاكات جسدية ونفسية وحتى جنسية وقد لا يستطيعون مصارحة اسرهم بهذه الانتهاكات كي لا يصبحوا اشخاصا منبوذين او غير مرغوب فيهم.
-العامل الاجتماعي حيث تعد الاسرة احد الأنساق التي تمثل نقطة ارتكاز اساسية في تدعيم التوازن الاجتماعي وترسيخه واي اختلال في بنية الاسرة او قصور يعتري اداء وظائفها فسيفضي حتما الى تصدعات في جدار البنيان الاجتماعي برمته، ويمكن التنبؤ بالدور الذي قد يلعبه التفكك الاسري وخاصة اذا ما اقترن بظروف اقتصادية او معيشية صعبة في دفع الاطفال الى سوق العمل وهذا ينسحب ايضا على ظاهرة التسرب المدرسي التي تكشف كل الدراسات تورطها المباشر في افراز ظاهرة عمالة الاطفال وتوسيع هامشها.
كما يمكن تفسير ظاهرة عمالة الاطفال في ضوء رغبة بعض الاباء في الحفاظ على استمرار مهنهم التي ورثوها عن ابائهم التي يعتزون بها ويرون فيها ارثا رمزيا لا يجدر التفريط فيه وذلك عن طريق توريثها للأبناء وتتعزز هذه النزعة في الآونة الاخيرة نتيجة ارتفاع معدلات البطالة في صفوف حملة الشواهد التعليمية والجامعية والمهنية وانخفاض الطلب عليهم من طرف الوظيفة العمومية.
-العامل الثقافي حيث ثمة قيم تسهم في دعم الظاهرة وشرعنتها من قبيل رغبة الاباء في اكساب ابنائهم القدرة على تحمل المسؤولية والاعتماد على الذات او توريثهم مهنهم التي توارثوها بدورهم عن ابنائهم (حرفة بوك لا يغلبوك).
-وهناك من جانب اخر القيم المادية الاستهلاكية التي غزت مجتمعاتنا واخذت تتبوا مكانة رفيعة في ظل طغيان قيم الرسملة والعولمة مقوضة دعائم الترابط والتراحم الاجتماعي وفارضة خلاف ذلك اجنداتها المعدة لخدمة قوى السوق والربح ولو كانت على حساب الفئات الضعيفة (الاطفال والنساء).
القوانين والتشريعات الدولية والوطنية تمنع الظاهرة دون ان تقضي عليها !!
ان عمالة الاطفال او اليافعين قد تكون في بعض الاحيان لها ايجابيات على سلوك وثقافة الطفل في حياته المستقبلية وتكون تحت يافطة التدريب واكتساب خبرة حياتية اي اعطاء فرصة للطفل واليافع في اكتساب مهارات حياتية وخبرة ميدانية وتعلم دروس الحياة ومحو الامية المالية وادارة وقت الفراغ في العطل والتوقفات المدرسية لكن قد يكون لهذا التدريب باب خلفي لتقنين عمالة الاطفال واستغلال هذه الطاقات الطفولية للحصول على ايد عاملة رخيصة الثمن ولأنها تقبل العمل دون اشتراطات وفي الجانب الثاني تسبب بانخفاض التحصيل الدراسي وارتفاع التعرض للعنف الجسدي والنفسي والجنسي والادمان على التدخين والمخدرات في سن مبكرة ولذلك جاءت التشريعات والاتفاقات الدولية التي التزمت بها معظم الدول لمكافحة عمالة الاطفال وتوفير الحماية اللازمة لهم وردم الفجوة القائمة بين سن التشغيل وسن التعليم الالزامي.
ومن الاتفاقيات والتشريعات الدولية والوطنية التي تدعو الى تجريم تشغيل الاطفال:
اتفاقية الامم المتحدة لحقوق الطفل .
اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 138 بشان الحد الادنى لسن العمل.
اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 182 بشان اسوا اشكال عمل الاطفال .
وفي القانون المغربي يمكن الاشارة الى :
المادة 23 من القانون رقم 19-12 والذي ينص ان اي شخص يشغل طفلا تقل سنه عن 16 سنة يعاقب بغرامة مالية وتضيف نفس المادة انه في حالة العود تضاعف الغرامة كما انه يمكن معاقبة المشغل بالسجن.
القانون رقم 99-65 المتعلق بمدونة الشغل ويحدد شروط الشغل والتشغيل المتعلقة بالعاملات والعمال المنزليين.
منع تشغيل الاطفال دون سن 15 سنة في المغرب مع السماح بتشغيل الاطفال الذين يتراوح اعمارهم بين 16 و18 سنة في بعض الحالات بشروط محددة بما في ذلك الحصول على اذن من اولياء الامور والالتزام بقائمة الاعمال المسموح بها.
المادة 143 من مدونة الشغل المغربية تنص على ان تشغيل حدث دون سن 15 ينتهي بالمشغل الى دفع غرامة مالية ويمكن ان تتحول العقوبة الى سجن نافد مع غرامة مضاعفة.
ويبقى رغم صرامة القوانين الوطنية والدولية ان الظروف المعيشية الصعبة هي التي تدفع اطفال الفقر والبؤس الى الخروج للبحث عن العمل برضى من اسرهم او بدونه رغم علم كثير من هذه الاسر ان ذلك مخالف للقانون الا ان الظروف المعيشية والاسرية تبقى اقوى منهم ويوجد المئات بل الالاف من الاطفال يعملون في ظروف غير قانونية ورغم تكثيف الحملات التفتيشية على المنشآت والاماكن التي يحتمل ان تشهد عمالة الاطفال الا ان ذلك لم يؤدي الى القضاء على الظاهرة بل ان الأسوأ في الامر هو خروج اطفال وفتيات صغيرات خلال فترة العطل المدرسية الى التسول في الشوارع والاماكن العمومية وفي المقاهي والمطاعم وذلك بالمخالفة للقانون بل ان القانون نفسه حين ينزل على المخالفين فانه قد لا يميز بين المشغل واسرة الطفل خصوصا اذا تواطأت الاسرة مع المشغل او تعرض الطفل لخطر.. والقانون قد يجرمهم معا المشغل والاسرة.
لذا يرى بعض الخبراء الاجتماعيين انه لا يمكن القضاء على الظاهرة ولكن يمكن معالجتها عبر اشراك الاسر واطفالهم في اعمال اجتماعية وثقافية وفنية ورياضية تتناسب مع مراحلهم العمرية في فترة الصيف التي لا توجد فيها دراسة.
اثار وانعكاسات تشغيل الاطفال
ان تقويض المقومات الاساسية لشخصية الطفل ونموه السوي قد يقود الى الوقوع فريسة للاضطرابات النفسية والجسدية والاجتماعية وتعد ظاهرة تشغيل الاطفال من الانتهاكات الصارخة التي تعمل على زلزلة تلك المقومات كالعمل القسري في البيوت (الفتيات) او في الاوراش والمهن الخطيرة وكأن الاباء المحتاجين يقدمون اطفالهم لأصحاب العمل مقابل تامين الحد الادنى من اساسيات الحياة لهم مما يترك اثارا جسمية ونفسية سلبية في الاطفال ويعرضهم لكل اشكال العنف اللفظي والمعنوي والمادي وقد يصل هذا العنف الى اشكال مختلفة من الاعتداء الجنسي وهو ما يفقدهم الاحساس بالأمن والتكيف الاجتماعي. وان كل الاعتداءات والاساءات التي يتعرض لها هؤلاء الاطفال اثناء عملهم تفقدهم الاحساس بالأمن وتزعزع ثقتهم بأنفسهم وتفضي بهم غالبا الى الاضطرابات الانفعالية والنفسية والسلوكية.
وبتتبع الخيط الذي يأتلف تلك الاثار السلبية والخطيرة على سلوك اطفال العمل القسري نجد انه تبتدئ غالبا بالأذى الواضح الذي يلحق بعملية التحصيل الدراسي اذ تدفع الظروف الاجتماعية والمعيشية للطفل الى اهمال دروسه والعجز عن مواجهة المتطلبات المدرسية مما قد يزيد من قابليات تسربه من المدرسة ان لم يكن قد تسرب منها بالفعل. وعند انقطاع الصلة بين الطفل والمدرسة تتلقفه سوق العمالة في الاوراش والاعمال العشوائية وفي التسول والبيع المتجول ولنا ان نتخيل مستوى الاخلاق والقيم التي سيتشربها الطفل ضمن اجواء كهذه التي ستكسبه عادات سلبية كالتدخين والانحراف والادمان والتي قد تدفعه الى الانخراط في عصابات السطو والنشل والسرقة او تجعله عضوا في شبكات الدعارة.
لذا يجب:
القيام بإجراء دراسات وبحوث اجتماعية وتربوية ونفسية لاستقصاء مكامن الظاهرة واستجلاء ابعادها واثارها وتحديد مستويات ومعدلات انتشارها.
تبني برامج جماعية منسقة بين مختلف الاطراف والقطاعات الحكومية والجمعوية المعنية بالظاهرة وبالحد من تفاقمها وتسارع شيوعها .
ايلاء الاهمية القصوى لظاهرة التسرب المدرسي ووضع الخطط والبرامج التربوية الكفيلة بمعالجتها لأنها من بين المسببات الرئيسية لبروز وشيوع هذه الظاهرة .
اعادة الاعتبار لمؤسسة الاسرة لكونها الخلية الاساس المنوط بها مهمة تنشئة الاطفال وتربيتهم وحمايتهم من السلوكات غير السوية.
استثمار كل وسائل الاعلام والوسائط التواصلية الحديثة ومؤسسات التربية والتعليم والمساجد وجمعيات المجتمع المدني لإشاعة وتعزيز القيم الانسانية النبيلة من تكافل وتعاون وتراحم ومحاربة القيم الاستهلاكية الدخيلة.
انها مقترحات قد تسهم بحصة متواضعة في العمل على مكافحة تشغيل الاطفال او الحد من امتداداتها السرطانية.
ذ. محمد بادرة