وصلني الخطاب التالي من مجنون الحارة:
“تحية طيبة أيها العاقل الذي يصفني دائما بمجنون الحارة”.
أود في هذه العجالة أن ألفت انتباهك إلى التفكر بجدية في مقتضيات أولويات التغيير الذي تنشده ويتمناه المغاربة الذين يحبون وطنهم بصدق. أذكرك بأنك قد كتبت مقالا منذ سنوات عنونته “الثورة العلمية في التربية واللغات هي الحل”.
واسمح لي أن أختلف معك لأن المجتمعات البشرية تواجه قضايا ومشاكل قائمة وملحة تنتظر حلولا سريعة لمواكبة التغيرات السريعة في جميع ماحي الحياة حتى في القيم والعلوم والتكنولوجيات التي تتقدم بسرعة مذهلة. أما العملية التربوية فإنها بطيئة وتتطلب تجنيد مجهودات جبارة ووقتا طويلا، واعترفت بأنها لا تأتي أكلها إلا بعد زمن طويل وهذا يعني انتظار مدة لقطف ثمارها وتذوق لذتها في سلوك البشر وتقدم المجتمع.
يلاحظ بأن كثيرا من الدراسات وآراء المتتبعين للشأن المغربي قد خلصوا إلى أن المجتمع يعاني من الجهل والتكليخ، ولا شك عند الكثير منهم بأن المغاربة يعانون من الفساد المركب والظلم والقهر، مثلهم في ذلك كبقية الشعوب المغلوبة على أمرها. ولقد حالت هذه الآفات التي تنخر جسم المجتمع المغربي وتعشعش فيه من أي تقدم وتحسين الظروف المعاشية للمغاربة.
ولقد تسببت هذه المعضلات من أمراض عديدة وأفقدتهم البوصلة حتى أصبحوا تائهين في غياهب اللامبالاة والظلم والقهر فاستكان بعضهم إلى العبودية الطوعية وكثير منهم أجبر عليها قهرا.
وقد لا يختلف كثير من الناس بأن حل هذه المعضلات الإنسانية يتطلب منهاجا سياسيا متنورا يكون نابعا من الحكمة والأخلاق الحميدة. ولا يخفى عليك بأن علم السياسة وتدير أمور البشر من العلوم النبيلة التي أبلى فيها الأولون بلاءا حسنا حتى سماها بعضهم المدينة الفاضلة”.
وإذا اعتبرنا منهاج سياسة التغيير الذي تنشده وينتظره المغاربة، فإن المرء يستضم بحقيقة خلوها من الحكمة والأخلاق وأصبحت ميدانا عريضا وطويلا ومرعى الجهل بين الأنام، في التعبير الخلدوني. ويضيف ابن خلدون بأن “الحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف شهاب النظر شيطانه.”
لا زلت أتذكر المناقشات التي جرت بين وبينك في حارتنا المشؤومة وعلى جبل لبنا وجبال عسير اتفقنا فيها على الثناء والتنويه بأعمال هذا العالم الجيل، كما اتفقنا على انتقاده في كثير من الأمور التي لم نستثني منها كل المتفيقهين.
تذكر رقصاتنا و تغنينا لما كشفنا سر عناصر قوام وعز وأبهة الأنظمة السياسية البشرية الناجحة التي سردها ابن خلدون حيث قال بأنها لا تستقيم الانظمة ولا قوام لها “إلا بالرجال ولا قوام للجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل.” وكنا نرقص ونردد “العدالة، العدالة، ولا شيء غير العدالة”.
وهنا تكمن أهمية العدالة وأولويتها في التغيير المنشود وتفرض مركزيتها قبل أي شيء آخر لإحداث أي تغيير يستهدف تحسين ممارسات السلطات وتعاملها مع المواطنين وواجب تنظيم ورعاية مصالح كل المواطنين والحرص الشديد على تحسين أحوالهم المعاشية والتمتع بحقوقهم في امان وطمأنينة.
على ضوء ما تقدمن فإن الخطوة الأولى لإشعال فتيل التغيير المنشود، يا سيدي العاقل، هي إحداث تغيير عميق في منظومة العدالة في مغربنا الغالي والغني لكي يسود فيه عدل نزيه ومستقل عن تدخلات أي كان.
وقد ورد في سورة النساء (آية 58): ” إن الله يأمركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل…”
يقتضي الحكم بالعدل تكوين العدول والقضاة ورجال ونساء القانون الأكفاء الذين لا ينحازون إلا إلى تطبيق القوانين وإنصاف المتقاضين.
ونظرا لأهمية وأولوية المنظومة القانوني في التغيير المنشود، فاسمح لي أن أفدم بعض المقترحات التي أراها ضرورة لإحداث ذلك التغيير فيها.
أولا: من الضروري إعادة النظر في مرتبا القضاة والمسؤولين في المحاكم على ألا يقل راتب القاضي عن 100000 (ماه ألف) درهم شهريا، مع المراقبة لصارة والدقيقة على جميع ممتلكاتهم.
ثانيا: يستمر القضاة في تأدية مسؤولياتهم إلى سن التقاعد ولا يطرد من الوظيفة إلا عند ارتكاب جريمة أخلاقية ثابتة أو فساد واخلال بالقوانين بشكل عام.
ثالثا: العدالة والانصاف في تقييم أداء القضاة والمسؤولين في المحاكم وتطبيق القوانين مع التنويه بخدماتهم وحسن سلوكهم وتفانيهم في العمل ليكونوا قدوة وأسوة حسنة للآخرين.
رابعا: تفتح وظائف القضاء للمحامين والمحاميات وخريجي وخريجات كليات القانون الذين اكتسبوا خبرة لا تقل عن خمس سنوات في ممارسة القانون في شتى المجالات بعد فوزهم في امتحان ولوج مهنة القضاء.
خامسا: إعادة النظر في البرامج التربوية والمواد والسنوات الدراسية المطلوبة للحصول على الدرجات العلمية في الدراسات القانونية على النحو التالي:
أ: تستمر الدراسة في كليات القانون 5 سنوات ويلتحق بها الفائزون في مباراة الولوج بعد سنتين في التعليم الجامعي في تخصصات اختيارهم.
ب: يشتمل برنامج التكوين على مواد أكاديمية في العلوم الإنسانية والإلمام بإحدى اللغات الأجنبية.
ج: يقضي الطلاب ما لا يقل عن 6 أشهر في التدريب في محاكم الدول المتقدمة قبل التخرج.
د: تمنح شهادة JD (دكتوراه فقه القانون؟) للطلاب والطالبات الذين أكملوا بنجاح كل مقررات البرنامج التربوي.
فإذا أتقن تنفيذ هذه المقترحات فقد يضمن المغاربة سيادة العدالة ومساهمتها في إشعال فتيل التغيير المنشود التي لا يحتمل التأخير.
فقضايا المغاربة كثيرة وتحتاج إلى البث فيها الآن وليس غدا وينتظر الناس نتائجها الآن مع طول بالهم عن نتائج وثمرات التعليم والتربية التي يدركون متطلباتها والتضحيات من أجلها.
تصور معي أنه نشب خلاف، من نوع ما، بين قريتين ومن الصعوبة بمكان توصل الراشدين إلى حل يرضي الساكنة: فما العمل؟ إخضاعهم لبرنامج تربوي لمدة معينة؟ أم سل سيف العدالة وتطبيق القانون وإنصاف الناس بدون تأخير؟ اظن أن العدالة وتطبيق القانون هي الأولوية وضرورة ملحة وعاجلة.
واسمح لي أن أختتم هذه الخلجات بقصة رمسيس الثالث ملك مصر الذي اغتيل سنة 1155 قبل الميلاد، أي قبل 3197 سنة تقريبا.
لقد ذكرت نتب التاريخ بأن امرأته الثانية وابنها بنتاوور( Pentawer) دبرا اغتيال الفرعون وشاركهما في المؤامرة آخرون وكان الهدف تربع الابن على العرش. لما تم الكشف عن المشاركين سل سيف العدالة وحكمت محكمة مكونة من 15 قاضي بالإعدام عليهم جميعا، واتضح فيما بعد أن اثنين من القضاة كانا من ندماء ابن رمسيس، فحكم عليهما زملائهما بالإعدام فانتحرا قبل تنفيذه فيهما. أليست هذه نفحة من العدالة النزيهة؟
هذه يا سيدي العاقل بعض اقتراحاتي واقتناعاتي حول أولويات التغيير الذي تنشده وتنتظره، ولا شك عندي أن المغاربة سيجدون ضالتهم، أولا وقبل كل شيء، في تغيير وتحسين نظام العدالة غي وطنهم الغالي والغني.
كل هذا لا يعني اهمال القطاعات الأخرى وضرورة ثورة علمية عقلانية قصد التغيير المنشود. وعندي اقتناع بأن عبقرية المغاربة في تسيير شؤونهم يشهد لها التاريخ وتراث الأجداد.
فإن وافقتني، فتبارك الله، وإن لم توافقني، فاعتبر كل هذا من بنات خيال مجنون الحارة، كما تسميني دائما. سامحك الله ومن معك.”
الدكتور عبد الغاني بشوار، اكادير، المغرب الآمن.