د.الحسين الرامي
في سياق الاحتجاجات التي تعرفها عدة مدن عبر التراب الوطني، والتي تمس بشكل خاص واقع المستشفيات العمومية، تبرز ضرورة إعادة طرح إشكاليات جوهرية ترتبط بأداء المنظومة الصحية الوطنية. وتتعلق هذه الإشكاليات، بالأساس، بمحدودية العرض الصحي من حيث الكم والكيف، ومدى توفره وجودته، فضلا عن فعالية ضمان الحق في الصحة باعتباره حقا دستوريا. كما يطرح واقع الخدمات الصحية إشكالا على مستوى ولوج المواطنين إليها، ومدى استفادتهم منها بشكل عادل ومنصف، بما يضمن تكافؤ الفرص والمساواة في الولوج إلى العلاجات والخدمات الصحية الأساسية.
وتعزى هذه الإشكاليات البنيوية إلى اختلالات عميقة ومتراكمة على مستوى السياسات العمومية الصحية، سواء من حيث بلورة هذه السياسات وصياغتها، أو على مستوى آليات تنزيلها وتفعيلها، وكذا أنظمة التتبع والمراقبة والتقييم المصاحبة لها. كما تمتد هذه الاختلالات إلى طرق تدبير المنظومة الصحية في كليتها، بما يشمل أبعادها الإنسانية والقيمية، فضلا عن الجوانب المالية والتقنية والإدارية، الأمر الذي يفضي إلى ضعف في الفعالية والنجاعة ويقوض فرص إصلاح مستدام وعادل للقطاع الصحي.
في كل مرة تتفجر فيها موجات احتجاج أو يظهر تذمر جماعي من طرف المواطنين بشأن أوضاع المرافق الصحية، يسارع الفاعلون العموميون وأصحاب القرار إلى القيام بزيارات ميدانية تفقدية للمستشفيات والمراكز الاستشفائية المعنية. وغالبا ما تتبع هذه الزيارات بإجراءات إدارية فورية، كالإعفاءات أو التنقيلات، تفهم في الغالب كخطوات عقابية أو ردعية. وفي السياق ذاته، يتم اتخاذ تدابير ظرفية تروم امتصاص حالة الغضب الاجتماعي، من خلال تلبية جزئية لبعض الحاجيات الصحية أو تحسين محدود في الخدمات، دون أن ترافق هذه التدخلات بحلول شمولية وهيكلية تستهدف معالجة الأسباب العميقة للاختلالات التي تعاني منها المنظومة الصحية.
من جهة أخرى، غالبا ما ينزع المهتمون بالشأن الصحي، من باحثين ومتتبعين وصناع رأي، إلى التركيز في مرحلة أولى على ضرورة تشخيص مكامن الخلل والضعف في المنظومة الصحية، باعتبار ذلك مدخلا أساسيا لأي إصلاح محتمل. غير أن طبيعة الأزمة الراهنة، وسياقها المتسم بالتراكم والتعقيد، يفرضان بداية طرح تساؤلات نقدية حول مآل الدراسات والتقارير والتوصيات التي سبق أن أصدرتها مؤسسات وطنية مرموقة، مشهود لها بالكفاءة والدقة والموضوعية والحياد، في رصد اختلالات المنظومة الصحية وغيرها من القطاعات الحيوية. ويطرح هنا إشكال محوري يتمثل في جدوى هذه التقارير، (التي غالبا ما تطلب إعدادها مجهودا كبيرا وميزانيات مهمة واستثمارا زمنيا وبشريا ممتدا، انخرط فيه خبراء، قضاة ماليون، مدققون ومفتشون) في ظل ضعف التفاعل المؤسساتي مع مضامينها، وتردد صانعي القرار في تفعيل التوصيات والإجراءات التصحيحية التي تقترحها. وهو ما يعيد النقاش إلى سؤال الإرادة السياسية والحكامة الرشيدة في تدبير الشأن الصحي العمومي.
كما تفرض الوضعية الراهنة للمنظومة الصحية، بما تشهده من اختلالات بنيوية على مستوى البنيات التحتية، والتجهيزات، والموارد البشرية والمادية، وطرق التدبير، ضرورة إعادة طرح سؤال المعنى والجدوى من آليات الرقابة السياسية، والإدارية، والقضائية، التي تستند إلى مرجعيات دستورية وقانونية واضحة. ويثير هذا السؤال المحوري سلسلة من التساؤلات الفرعية الآتية:
إلى أي حد تضطلع المؤسسة التشريعية، بصفتها الضامن الدستوري لممارسة وظيفة التقييم والرقابة على العمل الحكومي، بمسؤوليتها في مساءلة القطاع الوصي على المرفق الصحي وتتبع سياساته وبرامجه؟
ما مدى فعالية الأجهزة الإدارية المعنية بالتتبع والتفتيش والمراقبة، في رصد أوجه القصور والاختلالات في تدبير الخدمات الصحية، وفي تفعيل آليات الزجر والتقويم الإداري في الوقت المناسب؟
ما الدور الذي يضطلع به المجلس الأعلى للحسابات، باعتباره مؤسسة دستورية مكلفة بمراقبة التدبير المالي والإداري للمرافق العمومية، في تقييم أداء المؤسسات الصحية العمومية، وتفعيل مساطر التأديب المالي في حال تسجيل خروقات جسيمة؟
إلى أي مدى تنخرط المؤسسات القضائية في ممارسة اختصاصاتها ذات الصلة بضمان احترام الشرعية في تدبير الشأن العام، بما في ذلك ما يتعلق بتدبير القطاع الصحي، وترتيب الجزاءات القانونية في حالات الإخلال أو التقصير؟
وتجدر الإشارة إلى أن التقارير الصادرة عن عدد من المؤسسات الوطنية والمؤسسات الدولية، قد شكلت على مدى السنوات الأخيرة مصدرا أساسيا للمعلومات والمعطيات الكمية والنوعية، فضلا عن المؤشرات التقييمية التي تعكس حجم وطبيعة الاختلالات التي تعيق نجاعة وفعالية تدبير المرافق العمومية، وعلى رأسها المرفق الصحي. وتكمن أهمية هذه التقارير في كونها تستند إلى عمليات تدقيق ميدانية وتحليلات منهجية تمكن من تشخيص دقيق للاختلالات البنيوية والتنظيمية، مما يجعلها أدوات ذات قيمة مضافة في دعم القرار العمومي المبني على الأدلة.
وفي هذا الإطار، يظهر مؤشر التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) تموقع المغرب في مرتبة متأخرة، حيث احتل الرتبة 123 عالميا، ليصنف بذلك كأدنى بلد في حوض البحر الأبيض المتوسط من حيث هذا المؤشر. ويعزى هذا الترتيب بالأساس إلى التراجع المسجل في مكونين أساسيين من مكونات المؤشر، وهما: الصحة والتعليم، مما يعكس استمرار التحديات البنيوية التي تواجه المنظومتين، ويبرز في الآن ذاته الحاجة إلى مراجعة شاملة لسياسات التنمية البشرية في البلاد، وخاصة ما يتعلق منها بالخدمات الاجتماعية الأساسية.
على الصعيد الوطني، وفي سنة 2022، أصدرت المجموعة الموضوعاتية المؤقتة الخاصة بالأمن الصحي، المنبثقة عن مجلس المستشارين، تقريرا موضوعاتيا بعنوان “الأمن الصحي كمدخل لتعزيز مقومات السيادة الوطنية. وقد أشار التقرير إلى أن “رغم المجهودات المبذولة لفائدة قطاع الصحة، لا تزال هناك عدة إكراهات هيكلية تحول دون تحقيق النجاعة المطلوبة في تدبير المنظومة الصحية الوطنية”، مبرزا بالخصوص أن “تعاقب مجموعة من الإصلاحات لم يفضِ إلى إحداث تغيير حقيقي في القطاع”.
في تقريره الأخير للفترة 2023-2024، سلط المجلس الأعلى للحسابات الضوء على مجموعة من الصعوبات الهيكلية والمعيقات الجوهرية التي تعيق فعالية منظومة الصحة العقلية والنفسية، مما ينعكس سلبا على قدرة هذه المنظومة في تسهيل ولوج فئات مجتمعية هشة إلى الخدمات الصحية المتخصصة. كما سبق للمجلس، خلال السنوات الماضية، أن وثق عددا من الاختلالات والأعطاب المتعلقة ببنى وتجهيزات وخدمات عدد من المرافق والمراكز الاستشفائية، بالإضافة إلى أوجه القصور في أساليب تدبيرها، وهو ما يبرز الحاجة الملحة لإصلاحات شاملة تعزز من جودة وفعالية الخدمات الصحية العمومية.
كما أسهم التقرير الصادر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2022، والمعنون بـ”فعالية الحق في الصحة: تحديات، رهانات ومداخل التعزيز”، في توضيح المسارات الواجب اتباعها لإقرار توازنات مالية مستدامة ترتبط بتمويل القطاع الصحي. وقد ركز التقرير على أهمية تجاوز ومعالجة الاختلالات البنيوية التي تم رصدها داخل المنظومة الصحية، مع ضرورة الوقوف بشكل دقيق على حجم هذه الاختلالات لتفعيل سياسات إصلاحية قادرة على تعزيز فعالية الحق في الصحة وتحقيق إنصاف المواطن المرتفق.
في سياق متصل، أكدت دراسة حديثة للمندوبية السامية للتخطيط أن أكثر من 60% من الأسر المغربية أعربت عن عدم رضاها عن جودة الخدمات الصحية المقدمة خلال سنة 2024. كما أشارت الدراسة إلى استمرار تدهور الوضع الصحي العام في المغرب، على الرغم من المبادرات والإجراءات التي تم اتخاذها في محاولة لتحسين القطاع الصحي، مما يعكس الحاجة الماسة إلى مراجعة شاملة وفعالة لسياسات الصحة العمومية وتعزيز آليات المتابعة والتقييم.
وفي نفس السياق، رصد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في رأيه عقب إحالة ذاتية تمت المصادقة عليها سنة 2023، مجموعة من الأعطاب التي تعاني منها منظومة المستعجلات الطبية، والتي تعد مكونا أساسيا ضمن المنظومة الصحية العمومية. وأبرز المجلس في هذا الرأي الحاجة الملحة إلى تحسين آليات التكفل بهذه المستعجلات وتعزيز العناية بها، بهدف حماية الحياة الإنسانية وإنقاذها، فضلا عن المساهمة في توفير خدمات علاجية ذات جودة وكفاءة لجميع المرتفقين بشكل عادل ومنصف.