الجاسوسية: مهنة بلا تقاعد ونهاية لا ترحم

خارج الحدود

agadir24 – أكادير24

في عالم تتقاطع فيه المصالح والصراعات، تُعدّ الجاسوسية إحدى أقدم المهن التي عرفتها البشرية وأكثرها غموضًا. لكنها، وعلى خلاف المهن الأخرى، لا تتيح لصاحبها الاستمتاع بحياة ما بعد التقاعد. إذ يكاد التاريخ يجمع على حقيقة واحدة: لا نهاية سعيدة لجاسوس، سواء أكان بطلاً قوميًا أو خائنًا في نظر خصومه. فكل طريق في هذا المجال المظلم ينتهي بثلاث محطات لا رابعة لها: السجن، الإعدام، أو الاختفاء الأبدي.

لا ينجو أي جاسوس في نهاية المطاف من الحساب. هذه ليست مجرد مقولة درامية، بل واقع تؤكده عشرات القصص والحالات من مختلف الحقب الجغرافية والتاريخية. فمنذ فجر التجسس كأداة استراتيجية في الحروب والنزاعات، ارتبطت هذه “المهنة” بمصير قاتم يسقط فيه صاحبه حالما تُكشف أوراقه.

ماتا هاري.. الأسطورة التي أُعدمت برصاصة واحدة

في الحرب العالمية الأولى، تحوّلت الراقصة الهولندية “ماتا هاري” إلى رمز للجمال والدهاء، لكن خلف هذا البريق كانت تدور اتهامات بالتجسس لصالح ألمانيا. ألقي القبض عليها سنة 1917 وأُعدمت رمياً بالرصاص، رغم ما أثارته محاكمتها من جدل حول حقيقة التهم الموجهة إليها. ولغاية اليوم، لا يزال البعض يرى فيها ضحية صراع دول أكثر منها عميلة مزدوجة.

قضية روزنبرغ.. عندما تُصبح الأسرار النووية قاتلة

في قلب الحرب الباردة، كانت قضية الزوجين جوليوس وإيثل روزنبرغ من أبرز الملفات التي زلزلت الرأي العام الأمريكي. فقد أُعدما عام 1953 بعد إدانتهما بتسريب أسرار برنامج الأسلحة النووية الأمريكي إلى الاتحاد السوفيتي. رغم الجدل الأخلاقي والقانوني الذي صاحب المحاكمة، أصرّت الإدارة الأمريكية على أن التجسس “جريمة تقتل مستقبل الأمة”.

إيلي كوهين.. الجاسوس الذي كاد يصبح وزيرًا

واحدة من أكثر القصص شهرة في التاريخ المعاصر هي قصة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي تمكّن من اختراق مستويات عليا في الحكم السوري تحت اسم مستعار، وكاد يُعيّن وزيراً في الحكومة قبل أن يُكشف أمره عام 1965. أُعدم شنقًا في دمشق، رغم الضغوط الدولية للإفراج عنه، ليُصبح اسمه رمزًا للعبة تجسس انتهت عند حبل المشنقة.

هواغ يوي.. إعدام علني في الصين

في 2024، نفذت الصين حكم الإعدام في هواغ يوي، المتهم بتسريب معلومات عسكرية سرية إلى جهات أجنبية. شكّلت العملية جزءًا من حملة دعائية موسعة لتعزيز الثقة في قدرة الحكومة على حماية أمن الدولة، ولإرسال رسالة واضحة: لا تسامح مع من يخون الوطن، مهما كان منصبه أو خلفيته.

آنا مونتيس.. “ملكة كوبا” خلف القضبان

كانت آنا مونتيس، محللة استخباراتية رفيعة في وكالة الاستخبارات العسكرية الأمريكية، تنقل معلومات لصالح كوبا طوال عقد من الزمن. رغم تغلغلها العميق داخل المؤسسة الأمنية الأمريكية، سقطت سنة 2001 وحُكم عليها بالسجن لمدة 25 سنة. قصتها تُظهر أن حتى الجواسيس الأكثر براعة لا ينجون من العدالة.

أوليج بينكوفسكي وجوزيف ياكوبس.. من موسكو إلى لندن

بينكوفسكي، الجاسوس السوفييتي الذي سرّب معلومات حساسة حول أزمة صواريخ كوبا، أُعدم في موسكو سنة 1963. أما جوزيف ياكوبس، فكان آخر من أُعدم في برج لندن سنة 1941، بعد ثبوت تجسسه لصالح ألمانيا النازية. تم تنفيذ الحكم رمياً بالرصاص، ليكون شاهداً على أن “التحصينات الديمقراطية” لا تقلّ حدة عن الأنظمة الشمولية حين يتعلق الأمر بأمن الدولة.

لماذا لا ينجو الجواسيس؟

  • لأن الجاسوس يُعد تهديداً وجودياً لأمن الدول.
  • لأنه غالبًا ما يُمثل خيانة عظمى، وعقوبتها القصوى في معظم دساتير العالم هي الإعدام.
  • لأن كشف الجواسيس يستلزم استعراض قوة ورسالة ردع، خصوصاً في الأنظمة التي تخشى تسرب الثقة بين صفوفها.
  • لأن أنظمة التجسس محكومة بمنطق “الحذف عند الانتهاء من المهمة”، حتى من طرف الجهة التي جنّدته.

هذا، وقد يعترض البعض بأن بعض الجواسيس تصرّفوا بدافع إنساني أو سياسي. لكن الدول لا تعترف بالنيات، بل بالنتائج. وحتى في الديمقراطيات العريقة، لا يُسمح للتجسس أن يُبرر بأي غطاء أخلاقي. تمامًا كما قال أحد القضاة الفيدراليين في قضية روزنبرغ: “الأمن الوطني ليس مجالًا للتفاوض”.

من ماتا هاري إلى كوهين، من بينكوفسكي إلى آنا مونتيس، ومن ياكوبس إلى يوي، يتضح أن “لا أحد ينجو من الجاسوسية”. لا زمن يحمي، ولا مهارة، ولا دوافع. فهذه المهنة تبتلع أصحابها، وتلفظهم عند أول زلة أو وشاية أو تبدّل في التوازنات الدولية. إنها مهنة بلا تقاعد، بلا أوسمة، وبلا نهاية سعيدة.