جرَّاح كبير ومن أمهر الأطبّاء في عصر القرن العاشر ميلادي. ابتكر طُرقا جديدة في الجراحة ذاع صيتها حتى وصفه العلماء والمؤرخون بأبي الجراحة. وظلت مؤلفاته التي تُرجمت للعديد من اللغات مرجعا رئيسيا للأطباء في أوروبا لخمسة قرون على الأقل. هو أبو القاسم الزهراوي الأندلسي، وُلِد في مدينة الزهراء القريبة من مدينة قرطبة بالأندلس، والتي يُنسَب إليها ويُعرَف باسم (Abulcasis) في أوروبا لما قدَّمه من اكتشافات وإبداعات أسعدت البشرية. الزهراوي أشهر جَرَّاحي العرب، وصف بشكل دقيق عملية سحق الحصى في المتانة واعتُبر صاحب هذا الاختراع الذي يُنسب تعسفا للعصر الحديث. اعتبره المؤرخون البوابة التي أدخلت أوروبا إلى عالم الجراحة، من خلال عشرات الاكتشافات في الجراحات الداخلية وخيوط الجراحة وأدواتها وابتكاراته في الولادات القيصرية وطب العيون.
كان مولعا بالعِلم فدرَس الشريعة والفقه، واختار علم الطب لخدمة أهل مدينته الفقراء. لُقِّب بطبيب الفقراء حتى قيل فيه إنه كان من أهل الفضل والدين والعلم حيث كان يخصص نصف نهاره لمعالجة المرضى مجانا. تفرغ لدراسة علم التشريح وأبدع فيه، مما ساهم في تغيير نظرة المجتمع لعلم التشريح من عِلمٍ دوني إلى عِلمٍ مرموق. هو أول من أقر بضرورة ربط الشرايين قبل إجراء الجراحة منعا لحدوث النزيف، كما أنه أول من أدخل القطن في الاستخدامات الطبية. يُنسب له استخدام الخيوط التي تذوب (المستعملة حاليا بمسمى Catgut) في الجراحة بدل تلك التي يجب إزالتها بعد التئام الجرح. وكان الزهراوي يصنع تلك الخيوط من أمعاء الحيوانات. هو أول من استعمل الخياطة التجميلية تحت الجلد، وأول من استخدم خيوط الحرير في ربط الشرايين بعد الجراحة، وابتكر الخياطة المُثمَّنة وأول من استعمل تقنية الخياطة بإبرتين وخيط واحد.
من أبرز مؤلفاته “التصريف لمن عجِز عن التأليف” والذي يُعد موسوعة حقيقية خالدة في الطب، تتألف من ثلاثة أبواب وينقسم كل باب إلى 20 فصلا. يتحدث الزهراوي في كتابه عن الأمراض عموما، والأدوية بأنواعها المركبة والمُفرَدة والأعشاب والتركيبات المختلفة لها. إلا أن المقالة الأخيرة في الكتاب هي سبب شهرته وهي من أكسبته لقب “أبو الجراحين”. هذه المقالة خصصها الزهراوي للحديث بتفصيل عن الجراحة وسماها “في العمل باليد”. وبذلك يكون الزهراوي أول من أدخل الجراحة كتخصص تابع للطب. ففي عصر الزهراوي كانت الجراحة صَنعَة اليد يمكن لأيٍّ كان القيام بها. الأمر لا ينطبق على العالم الإسلامي فحسب بل يتعداه إلى أوروبا حيث كانت الجراحة يقوم بها الحلاقون. ففي بريطانيا مثلا تأسست جمعية تسمى “جمعية الجراحين والحلاقين” سنة 1540. استمرت هذه الجمعية لأكثر من 200 سنة حيث كان الحلاق هو من يقوم بالجراحة، قبل أن تنفصل مهنة الجراحين، لتصير تخصصا طبيا، وتنتظم في جمعية للجراحين تأسست سنة 1745 والتي ستتحول إلى الكلية الملكية للجراحين بلندن والمستمرة حتى وقتنا الحاضر.
منذ القرن العاشر، نقل الزهراوي الجراحة إلى مستوى متقدم علميا، وحوَّلها بجهوده الخاصة إلى تخصص علمي مرتبط بالطب. واعتبر أن تركه الحديث عن الجراحة لآخر فصل في كتابه مرده إلى كون الجراحة هي أصعب مجالات الطب، وأن مُمارِس الجراحة يجب أن يكون مُلِما بكل الممارسات الطبية وبكل فروع الطب الموجودة، وهو ما توصلت إليه أوروبا في القرن 18. يَعتبر الزهراوي أن الذي يريد ممارسة الجراحة يجب أن يدرس علم التشريح بمنتهى الدقة، كما أنه لا يتحدث عن الجراحة كجراحة عامة، بل كان يتحدث عن تخصصات في الجراحة كتخصص العظام وتخصص المسالك أو التخصص الذي كان يتقنه وأبدع فيه وهو تخصص النساء والتوليد.
في مجال العظام تحدث الزهراوي في كتابه عن كل الكسور التي يمكن أن تصيب أي عظمة في الجسم، محددا مكانها وشكل الكسر وطبيعته. ثم يتحدث عن كيفية تجبير الكسر حسب نوعه وخصوصية العظمة والوقت المطلوب لالتآم الكسر، وهي معلومات ما زالت صالحة في وقتنا الحاضر. في مجال المسالك، ابتكر الزهراوي طريقة لاستخراج حصوات المثانة عن طريق المهبل وهي طريقة أسهل وأقل إيلاما، واستخدامها عملي أكثر. تفتقت عبقرية الزهراوي في أمراض النساء والتوليد، فهو أول طبيب في التاريخ تحدث عن الحمل خارج الرحم وأبدع في طُرُق علاجه. ابتكر كذلك مِلقاطا يشد به رأس الطفل لإخراجه من الرحم، لتيسير عملية الولادة وتقليص المخاطر على الجنين. هذا المِلقاط هو من صممه ورسمه بنفسه. الزهراوي هو أول طبيب في التاريخ أوصى بعملية شق الغِشاء الأمِنيوسي المحيط بالجنين، وهي تقنية ما زالت مستعملة في وقتنا الراهن. كما أنه وصف كيفية استخراج التجمعات الدموية في الصدر عن طريق أنبوبة كان يستخدمها في حالة الإصابة بسهم. وما زالت هذه العملية تُستخدم في الوقت الحاضر.
الزهراوي هو أول من ابتكر طريقة استئصال الدوالي (Les varices) عن طريق الجراحة جزء بعد جزء حتى استئصال الدوالي. وهي طريقة ما زالت مستعملة في عصرنا الراهن. تحدث الزهراوي كذلك عن الأورام وكيفية التعامل معها بشكل جراحي، وقال إن الأورام يتم التعامل معها حسب العضو الموجودة فيه، فقال مثلا عن ورم الثدي إننا نتعامل معه بطريقتين: إذا كان الورم مبكِّرا نُزيله بسرعة، لكن إذا كان في حالة متأخرة لا داعي لاستئصاله لأنه سيكون انتشر ولا فائدة من الاستئصال، وهي نفس الطريقة المستعملة حاليا مع الأورام مع بعض التعديلات المرتبطة بالتقدم الذي عرفه طب الأورام. تحدث الزهراوي عن التشوهات الخِلقية لدى الأطفال ووصف كيفية علاجها بشكل جراحي. كما أنه اخترع مجموعة ضخمة من الآلات الجراحية وهي أكثر من 200 آلة تُستعمل في الجراحة وهو من صممها ورسمها بنفسه وقسمها لعدة أقسام حسب نوعية الاستخدام كمجموعة المباضع والكلاليب والصنانير وغيرها.
إسهامات الرازي لم تقتصر على الجراحة، بل تعدته لتمتد إلى باقي مجالات الطب. فالزهراوي أول طبيب في التاريخ يصف مرض الهيموفيليا (ضعف تختر الدم بشكل طبيعي) وهو أول طبيب يصف مرض عدم انتظام ضربات القلب المعرف بمرض (Missed beats)
تميَّز الزهراوي عن غيره من الأطباء والجراحين، وكان يقول نظريته بكل جُرأة اعتمادا على معطيات علمية. فقد عارض الزهراوي رأي العلماء المُتعلِّق بالكَي، حيث كانوا يعتقدون أن وقت الكي لا يَصلُح إلّا في الربيع، وذَكَر الزهراوي أنَّ الكي يَصلُح في أي وقت من السنة. وقال إن الحديد هو الأفضل للكي، وهذا خِلاف ما ذكره العلماء أن الذهب هو الأفضل للكي.
رغم إسهامات الزهراوي العظيمة في تطوير علم الجراحة، إلا أنه توفي كأي طبيب آخر، دون أن يعترف له معاصروه بقيمته العلمية وابتكاراته الطبية، ودون أن ينتبه المجتمع لقيمة الأعمال التي قام بها في مجال تطوير الجراحة. توفي الزهراوي سنة 1013م ويبقى العبقري في الجراحة دون اهتمامٍ بقيمته حتى القرن 12 حيث تمت ترجمة كتابه “التصريف لمن عجِز عن التأليف” إلى اللغة اللاتينية. وجدت أوروبا نفسها أمام كنز معرفي لم يسبق له مثيل، فاعتمده الأطباء وممارسو الجراحة في العالم الغربي كمرجع أساسي في علم الجراحة لمدة تفوق 500 سنة إلى جانب كتاب ابن سينا “القانون في الطب” كمرجع في الطب الباطني. وبذلك تكون شهرته بعد رحيله فاقت تلك التي حققها وهو على قيد الحياة. إذ رحل الزهراوي تاركا إرثا علميا ومرجعية جراحية استمرت لقرون وتستمر بعض ابتكاراته مستَعملةً في الطب لغاية وقتنا الحاضر.
سعيد الغماز