سعيد الغماز/
الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين.
تقوم فلسفة الفارابي على أسس منطقية قام بالتنظير لها بعناية كبيرة. ويرى أن الفلسفة هي الحكمة بمعناها الواسع، وحاول إعطاء تعريف لها حيث اعتبرها “علم العلوم، وأم العلوم، وصناعة الصناعات…والفيلسوف الكامل على الإطلاق هو من يحصل العلوم النظرية ويكون له قوة على استعمالها في كل ما سواها وبالوجه الممكن فيه”. فلسفة الفارابي تقوم على مفاهيم من قبل واجب الوجود وممكن الوجود إلى جانب إبداعه في نظرية الفيض لصاحبها الفيلسوف اليوناني “أفلوطين”. فلسفة الفارابي قائمة على منبعين: الإسلام والفلسفة اليونانية المتمثلة بأفلاطون وأرسطو إضافة إلى مدرسة الاسكندرية المتمثلة بأفلوطين.
واجب الوجود في فلسفة الفارابي هو الله، فالوجود أي العالم من حولنا لا يمكن أن يكون موجودا بدون “واجب الوجود”. ثم إن السببية التي تقوم عليها الفلسفة تُدخل العقل البشري في سلسلة من العِلية تجعل لكل موجود سببا في وجوده، وبرجوعنا إلى الوراء سنكون في دائرة يجب أن تتوقف عند حلقة معينة وإلا سنرجع مع سلسلة السببية إلى ما لا نهاية، وهو ما لا يستسيغه العقل البشري. وعليه فلا بد لسلسلة العِلية هذه أن تتوقف عند حلقة معينة وتكون هذه الحلقة هي “واجب الوجود” الذي يُعطينا في درجة أدنى “ممكن الوجود” وهو العالم من حولنا حسب الفارابي.
للفارابي العديد من النظريات الفلسفية سنتحدث عن كل واحدة منها على حدا لتبسيط فلسفة الرجل. أكثر المصطلحات استعمالا في أعمال الفارابي هي مصطلح “السعادة”، ولا يقصد بها المفهوم الحرفي وإنما هي تشتمل لديه معاني أوسع. السعادة هي كلمة مترجمة من اللغة الاغريقية وتسمى “يودايمونيا” ومعناها الحرفي الازدهار والرخاء الإنساني والرفاهية. أول من استخدم هذا المصطلح هو المعلم الأول أرسطو. بالنسبة للفارابي السعادة هي الغاية الأسمى للمجتمع، حيث يعتبر أن غاية الإنسان الأساسية في الحياة هي تطوير الذات بالتعلم المستمر والتفكر أي استخدام العقل، وكل شيء يجب تسخيره لأجل تحقيق هذه الغاية. ولبلوغ السعادة يجب إنشاء نظام سياسي واجتماعي للسعي وراء الوصول إلى “اليودايمونيا” أي السعادة. وبتبني الفارابي للمدينة الفاضلة لدى أفلاطون، فهو يعتقد أنها الوسيلة الأفضل لتحقيق السعادة لدى الأفراد. فكل شيء عند الفارابي من نظم سياسية إلى الدين والأخلاق وعلم الاجتماع كلها تصب في سبيل تحقيق السعادة والاستزادة منها.
أهم الصراعات الفكرية التي خاضها الفارابي كانت متعلقة بنظرية الفيض والتي تدْخُل في إطار مشروعه التوفيقي بين الدين الإسلامي والفلسفة اليونانية. ليخلص إلى فلسفة إسلامية تشرح حقيقة الكون والخلائق. استلهم الفارابي نظرية الفيض من الفيلسوف اليوناني “أفلوطين” الذي عاش في القرن الثالث الميلادي وقام بتطويرها وتوليفها مع نظرية الإسلام في الخلق. هذه النظرية حوَّلها الفارابي لتوائم المنطق الإسلامي فزعم أن الواحد الأحد هو الله وهو يفيض بكماله ذاتيا ليُخرج العقل الذي يتأمل فيه. وهذا العقل بدوره يفيض ليخرج عنه العقل الثالث والذي يتمثل في السماوات، هذا العقل الثالث يتأمل في عظمة الله ليفيض هو الآخر وفي المُحَصِّلة نجد العقل الرابع والذي يتمثل في النجوم. هذه الأخيرة تتفكر في الله لتفيض لتُعطي العقل الخامس وهو كوكب زحل، وهكذا تستمر السلسلة، كل عقل يفيض بشيء أدنى منه لحين الوصول إلى المرتبة العاشرة والتي نجد فيها القمر الذي يمثل في فلسفة الفارابي، مستوى العقل الفعال ومنه تخرج كل الأشياء المادية أو “الهُيُولَة” كما يُعرفها الإغريق. يقول الفارابي إن أرقى أشكال هذه المادة هي الإنسان.
أسس الفارابي نظريته في الفلسفة السياسية على دراسته المُستفيضة لجسم الإنسان حيث اعتبر أن نظام الدولة يجب أن يكون مُطابقا في تركيبته لجسم الإنسان. فالقلب هو مركز كل شيء، يليه العقل وهكذا بالنسبة لبقية الأعضاء. ويعتبر الفارابي العلاقات الاجتماعية بين الناس لها أثر كبير في الفلسفة السياسية حيث يقول: “إن أنفع الأمور التي يسلكها المرء في استجلاب علم السياسة وغيرها من العلوم، أن يتأمل أحوال الناس وأعمالهم وتصرفاتهم، ما شهدها وما غاب عنه مما سمعه وتناهى إليه منها، وأن يمعن النظر فيها ويميز بين محاسنها ومساوئها، وبين النافع والضار منها”.
كان الفارابي يعتقد أن مركز الدولة يجب أن يكون بيد حاكم واحد وله السلطة المطلقة للعمل دون تأثير أحد عليه، لكن هذا الحاكم يجب أن يكون وصل إلى الكمال الفعلي ويجب أن يكون عالما وفيلسوفا. ولا يجب فقط أن يُدير الدولة بل عليه أن يشارك الجميع علومه وأن يُعَلِّم الناس. دور الحاكم عنده مهم أيضا في توزيع المهام ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب. كل هذه العوامل تمهد الطريق إلى المدينة الفاضلة، وهذه الأخيرة في اعتقاد الفارابي تُؤدي إلى تحقيق السعادة. حسب الفارابي الفضيلة لم تتحقق في أي مكان أو زمان ولم تصل لها أي دولة أو مجتمع. ويعزي الفارابي سبب ذلك إلى ضعف المجتمعات، لذلك صنفها إلى مستويات عدة حسب مستواها العقلي والروحي:
-مجتمع جاهل: لا يعرف معنى السعادة أو “اليودايمونيا” بل يسعى إلى سعادة دنيوية.
-مجتمع لا أخلاقي: وهو المجتمع الذي يعرف السعادة لكنه اختار عدم السعي وراءها.
-مجتمع مخطئ: وهو المجتمع الذي أساء فهم حقيقة أو معنى السعادة.
كان هذا التقسيم الروحي للمجتمعات حسب فلسفة الفارابي.
ورغم إقرار الفارابي بصعوبة تحقيق المجتمع الفاضل أو المدينة الفاضلة، فإنه مع ذلك حاول إبداع طرق لعلها تجعل الدولة تقترب أكثر من الفضيلة. وفي هذا الاطرار حدد الفارابي 12 ميزة يجب توفرها في الحاكم ليكون مؤهلا لتسلم منصب الحاكم، علما أنه يميز بين الصفات الفطرية والصفات المُكتسبة لدى الحاكم أو الأمير.
امتدت فلسفة الفارابي إلى نظرية المعرفة حيث قسم المعرفة إلى ثلاث مستويات: المستوى العقلي أي القدرة العقلية في كسب العلم والقدرة على التفكر ووَضَع الفلاسفة في قمة هذا الترتيب. المستوى الثاني هو التخيلي أي المعرفة المتأتية من المُخَيِّلَة أو الوحي ووضع الأنبياء في هذه المرتبة لأن الوحي حسب زعمه نِتاج العقل المتخيِّل بحيث تكون له وسيلة اتصال مع الأبعاد الأخرى. المستوى الثالث حسي أي المعرفة المتأتية من الأحاسيس وهي المرتبة الأدنى وتشمل العلوم الطبيعية.
أهمية الرجل المتعلم لا يمكن التقليل من شأنه في تصور الفارابي. فكان يُؤكد دائما على تسلم المناصب المهمة في الدولة بترجيح الشخص المتعلم على الجاهل، ولذلك استلهم الفارابي من أفلاطون نظرية المَلِك الفيلسوف الذي سيكون الأفضل في قيادته للدولة.
إذا كانت فلسفة الفارابي لقيت انتقادا شديدا من خصومه بسبب محاولته المواءمة بين الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية، فقد وجدت طريقها إلى أوروبا حيث تمت ترجمة أعماله لتُساهم في قيام عصر النهضة.