سياسية

الترحال السياسي في المغرب: أزمة كائنات انتخابية لا أزمة أحزاب

عبدالله بن عيسى

كلما اقتربت الاستحقاقات الانتخابية في المغرب، تطفو على السطح ظاهرة مألوفة باتت تتكرر بشكل مثير للقلق، وهي ظاهرة الترحال السياسي، حيث يتنقل عدد من المرشحين بين الأحزاب كما لو كانوا سلعًا معروضة في السوق، تبحث عن واجهة جديدة تُسوَّق من خلالها، غير عابئين بالانتماء الفكري أو المرجعية الأيديولوجية أو حتى الثقة التي وضعها الناخبون فيهم ذات يوم.

 هذه الظاهرة التي تتسع رقعتها مع اقتراب كل انتخابات ليست مجرد حركة عابرة أو مناورة معزولة، بل هي تجلٍّ لأزمة عميقة تهدد مصداقية السياسة وتضرب الثقة المتبقية بين الناخب والأحزاب.

تجربة الولاية الانتخابية الحالية، سواء داخل البرلمان أو في الجماعات الترابية، أوضحت أن المشكل لم يعد محصورًا في الأحزاب كتنظيمات سياسية، بل أصبح يتجسد في الكائنات الانتخابية التي تستوطنها.

هؤلاء الأشخاص الذين يعاد تدويرهم في كل مرة، ويُمنح لهم موقع جديد في مشهد قديم، هم العنوان الأبرز للأزمة، إذ يتم توظيفهم لخدمة أجندات متفق عليها مسبقًا، بعيدًا عن أي التزام ببرنامج أو تعاقد حقيقي مع المواطنين.

فالمرشح اليوم لم يعد يعتبر نفسه ممثلًا لفكرة أو حاملًا لمشروع، بل سلعة سياسية جاهزة، قابلة لإعادة التحديث، مرنة لدرجة تسمح لها بالانسجام مع أي خطاب حزبي أو توجه كيفما كان لونه، سواء كان يساريًا أو يمينيًا أو وسطيا. لا تهمه المرجعيات الفكرية ولا التوجهات السياسية، بل كل ما يهمه هو أن يجد منصة جديدة تمنحه فرصة للترشح، فيقحم نفسه فيها كما يقحم أي منتج في غلاف جديد، ثم يرحل عنها عند أول فرصة سانحة.

هذا المشهد أفرز وضعًا عبثيًا جعل بعض المرشحين يطوفون دورة كاملة على مختلف الأحزاب، متنقلين من هذا التنظيم إلى ذاك، تاركين وراءهم سلسلة من الخيبات السياسية لدى الناخبين الذين صوّتوا عليهم في مراحل سابقة. والنتيجة أن الناخب المغربي أصبح يرى بأم عينه أن من صوت لصالحه بالأمس تحت شعار حزب معين، يمكن أن يظهر له اليوم في حزب آخر بشعار مختلف وخطاب متناقض، الأمر الذي يزرع الشك العميق ويؤدي إلى قطيعة حقيقية مع الممارسة السياسية برمتها.

إن أخطر ما في هذه الظاهرة هو أنها تُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها، وتحول المنافسة الحزبية إلى مجرد تبادل للوجوه نفسها، وتُقنع المواطن بأن لا فرق بين الأحزاب سوى في اللافتات والشعارات، أما الوجوه فهي نفسها تُعاد تدويرها باستمرار. وبذلك يصبح الانتماء الحزبي مجرد محطة مؤقتة في رحلة الترحال، بينما يظل الهدف الوحيد هو الوصول إلى المقاعد والمناصب بأقل التكاليف وبلا أي التزام أخلاقي أو سياسي.

إن استمرار الترحال السياسي يقوّض أسس الثقة ويُعمّق أزمة العزوف، لأن المواطن حين يفقد الأمل في الأحزاب وفي صدقية مرشحيها، فإنه ينكفئ عن المشاركة ويعتبر العملية برمتها مجرد لعبة بلا جدوى.

ومن هنا، فإن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الأحزاب التي تقبل احتضان هذه الكائنات الانتخابية، فتمنحها التزكية وتفتح لها الطريق من جديد، مساهمة بذلك في تكريس أزمة أخلاقية وسياسية تهدد التجربة الديمقراطية. إن المطلوب اليوم، إذا كانت الأحزاب جادة في الحفاظ على ما تبقى من رصيدها الأخلاقي والسياسي، أن تتخذ قرارًا شجاعًا وحاسمًا برفض أي مرشح يتنقل من حزب إلى آخر لمجرد البحث عن التزكية، وأن تعلن صراحة أنها لن تمنح فرصًا جديدة لوجوه استهلكت مصداقيتها وضيعت ثقة الناخبين.

فالسياسة ليست مسرحًا لتدوير الأشخاص ولا مجالًا للتلاعب بالانتماءات، بل هي مسؤولية والتزام أمام الله والوطن والناس.

 وإذا لم تضع الأحزاب حدًا لهذه الممارسات، فإنها تشارك مباشرة في صناعة الخيبة الجماعية، وستكون أول من يدفع ثمن انهيار الثقة وتراجع المشاركة.

الترحال السياسي لم يعد مجرد سلوك فردي معزول، بل تحول إلى سرطان يفتك بالمشهد الحزبي، وإذا لم يُقاوم بصرامة فإن الثمن سيكون غاليًا.. مزيد من العزوف، ومزيد من احتقار السياسة، ومزيد من فقدان الأمل في أن الأحزاب قادرة على تجديد نفسها وإنتاج نخب حقيقية.

إن المعركة اليوم ليست بين يمين ويسار، ولا بين محافظ وحداثي، بل بين من يريد أن يجعل السياسة التزامًا أخلاقيًا ومشروعًا جماعيًا، ومن يراها مجرد سوق مفتوحة يتنقل فيها كما يشاء، بلا وفاء ولا ضمير.

وإصلاح السياسة لن يبدأ إلا بقطع الطريق أمام هذه الكائنات الجاهزة، وإعادة الاعتبار لفكرة أن المرشح ليس سلعة، بل تعاقد ومسؤولية ومشروع، وأن السياسة ليست رحلة ترحال، بل خدمة عامة وواجب وطني.

    تعليقات الزوار تعبّر عن آرائهم الشخصية، ولا تمثّل بالضرورة مواقف أو آراء موقع أكادير 24.
  1. لحو -

    اللوم كل اللوم على المواطنين الذين يصوتون على مثل هؤلاء الذين يشبهون الحرباء التي تغير لونها حسب الطبيعة التي تعيش فيها