هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه أكادير 24.

وكأن على رؤوسهم الطير أو لحظة الصمت المريب قبل سقوط وهم الإنفصال

كُتّاب وآراء

يخيل للناظر إلى المشهد المغاربي اليوم ، وإلى الوجوم الذي يخيم على ساسة الجزائر وقيادة بوليساريو، أن الطير لو حطت على رؤوسهم لما تحركت من شدة ما يملأ الأجواء من صمت وتوجس وارتباك. إنها لحظة سياسية كثيفة، تتقاطع فيها رهبة الإنتظار مع ثقل الحقيقة التي لم يعد ممكنا الفرار منها، فيما يترقب الجميع صدور القرار الأممي الجديد حول قضية الصحراء المغربية.

لقد غدت وجوه الإنفصاليين واجمة وبياناتهم مضطربة، وأصواتهم الإعلامية المتهافتة لا تخفي ما يسكنهم من فزع مكتوم، وكأنهم يدركون أن زمن المناورة قد ولى، وأن ساعة الحقيقة قد دقت. فما يسمع اليوم من ضجيج في محيط مخيمات تندوف، ومن محاولات بائسة لإحياء خطاب فقد صداه، ليس إلا رجعا متكسرا لمرحلة سياسية آيلة إلى الأفول. لقد أعادت القيادة الانفصالية إنتاج “الخلطة المعروفة” التي اعتادت اللجوء إليها كلما ضاقت بها السبل: خطاب تعبوي فارغ، واتهامات متهافتة لم تعد تقنع أحدا، حتى في أوساط المخيمات نفسها. وفي هذا السياق المأزوم، يستعاد المثل الحساني البليغ: «إلاّ امْنينْ يتعب ويعجز الرّوام، اعطْ للخلطة ذوك المعروفة نجدتهم على وجه السرعة»، إذ حين يعجز الفاعلون الحقيقيون، يستدعى محترفو المزايدة لتمثيل الفشل ذاته. هذا تماما ما نراه اليوم من قيادة أنهكها الصراع وتعيش على وهم قديم وزائل، تقتات من معاناة صنعتها بيديها. لقد تحولت “القضية المزعومة” التي كانت ترفع رايتها باسم “التحرير وتقرير المصير”، إلى وسيلة للاغتناء على حساب معانات الإنسان ، وإلى مشروعٍ ضيق لعصابة توزع المناصب والإمتيازات على قاعدة الولاء والعمالة لنظام جزائري يتوجس رقبته من حين لآخر و يعيش عزلة ديبلوماسية غير مسبوقة في عمر الجزائر الفتي.

إن مخيمات تندوف التي كان يروج لها كدبا وبهتانا للعالم كساحة “نضال” والحال انها لا تعدوا إلا محتجزا كبيرا لأشخاص من جنسيات افريقية مختلفة ومن بعض لا يتحاوز 2% ممن هم من أصول الصحراء المغربية حسب آخر الوثائق العسكرية الاسبانية التي رفعت عنها السرية، مخيمات تحولت إلى اقتصاد مغلق يقوم على الريع الإنساني، وإلى فضاء لتوريث النفوذ بين الأجنحة المتنازعة لمجموعة عصابة ترعى مصالح جنرالات قصر المرادية، مخيمات لا حلم فيها يتجاوز حدود المساعدات الدولية، بعدما استهلكت الشعارات وتهاوت منظومة القيادة تحت ثقل الفساد والجمود الفكري.

في المقابل، تمضي المملكة المغربية بثباتٍ محسوب ورؤية استراتيجية واقعية في ترسيخ مشروع الحكم الذاتي كحل وحيد قابلٍ للتنفيذ، يستند إلى الشرعية الدولية وإلى الدعم المتزايد من القوى الفاعلة في مجلس الأمن. فقد نجح المغرب في غضون عقدين من الزمن ، في تحويل معركة الصحراء من نزاع سياسي متنازع عليه إلى قضية محسومة ديبلوماسيا وقانونيا، ترتكز على منطق التنمية والواقعية. وبينما أضاعت جبهة وهمية وصانعتها الجزائر أكثر من خمسة وثلاثين عاما في المراوغة والتضليل، إستطاعت الديبلوماسية المغربية أن تفرض إيقاعها على أجندة الأمم المتحدة، وأن تجعل مقترح الحكم الذاتي مرجعا أمميا لا يمكن تجاوزه لحسم نزاع مفتعل طال أمده.

ومع إقتراب التصويت المرتقب الذي لا تفصلنا عنه إلا بضع يومين، في مجلس الأمن على مشروع القرار الجديد، يتبدى حجم التحول الذي أصاب الموازين. فالوثيقة الأممية المرتقبة تعد سابقة في وضوحها ومضمونها، إذ تؤكد بجلاء أن المجلس “يحيط علما بالدعم الذي عبرت عنه الدول الأعضاء لمقترح المغرب الجاد وذي المصداقية والواقعي للحكم الذاتي”، وتعتبره “الأساس الأكثر مصداقية لحل عادل ودائم للنزاع”،و على أساس مقترح الحكم الذاتي الحل السياسي النهائي والمقبول والذي يضمن حكم ذاتي حقيقي في إطار الدولة المغربية، كما جاء في مسودة المقترح الأمريكي المؤكد للحكم الذاتي  وباللون الأزرق.

إن رد الفعل الهستيري لجبهة بوليساريو إزاء هذا التطور يكشف عمق الإرتباك ووضوح الهزيمة النفسية قبل السياسية، فقد سارعت القيادة الإنفصالية إلى توجيه رسالة إحتجاج إلى رئيس مجلس الأمن، ووصفت مشروع القرار بـ“الانحراف الخطير وغير المسبوق”، مهددة بعدم المشاركة في أي عملية سياسية إذا تم إعتماده بصيغته الحالية. إنها الصرخة الأخيرة لوهم يحتضر، والعجز المفضوح أمام منطقٍ أممي بات لا يرى في أطروحتهم سوى بقايا خطاب عتيق.

ختاما، إن التاريخ يعيد ترتيب صفحاته الآن بصرامة وهدوء في آن واحد، ويكتب نهايته على حبر الحقيقة، إن من بنى مشروعه على الوهم، لا بد أن يسقط تحت ثقل الواقع، فقد إنتهى زمن الشعارات، وسقط قناع “تقرير المصير” المزعوم، وباتت رهبة الصمت المطبق التي تخيم على المخيمات وعلى داعميها تجسيدا دقيقا للمثل القرآني والبلاغي العميق: «وكأن على رؤوسهم الطير».

إنها لحظة ما قبل الانهيار، حيث يتجلى الصمت كإعلان خافت عن هزيمة لم تعد تحتاج إلى بيان.

د/ الحسين بكار السباعي

محلل سياسي وخبير إستراتيجي

التعاليق (0)

اترك تعليقاً