هذا المقال من رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن توجه أكادير 24.

تيزنيت وكرنفال الأقنعة الرقمية.. حروب الظلال المجهولة.

كُتّاب وآراء

سعيد رحم

في فضاءات النقاش العمومي الرقمي، لم تعد الهوية مجرد اسم وعنوان، بل تحولت إلى قناع افتراضي نرتديه لنقول ما نشاء دون كشف أوراقنا الحقيقية وهوياتنا وتاريخنا ومساراتنا الشخصية بمنجزاتها وإخفاقاتها.. هذه الظاهرة تجسد، بمفارقة لافتة، انتقالا فرجويا من أقنعة “إمعشار” في الفضاء العام ، إلى مسرح الفضاء الرقمي بأبعاده الأكثر تعقيدا، وخوارزميته الملغزة، وهي تظهر بقوة على المستوى المحلي، كما في حالة مدينة تيزنيت، المدينة الأكثر نشاطا جهويا في النقاش العمومي الرقمي والأكثر حضورا إعلاميا على صعيد الجهة، والتي تقدم نموذجا جديدا وحيا لتحول هذا النقاش نحو نمط جديد من الفرجة الإعلامية، أو ما يشبه كرنفالا من الأقنعة الرقمية.

في هذا الكرنفال الرقمي، يبرز مؤخرا اسمان مستعاران يعبران عن تيارين متعارضين، ” الرواي عبدالحكيم” الناطق باسم الأغلبية المسيرة للجماعة والمجلس الإقليمي، والتجمع الوطني للأحرار، ولوبي زواج المال والسلطة في تعبيراته المحلية الصغيرة أو حتى الطفيلية، و”لالة زنينية” المعبرة عن صوت معارض للحضور السياسي للأحرار وهيمنة كارتيلهم على كل تعبيرات المشهد المحلي سياسيا وجمعويا.. هذان الاسمان ليسا مجرد ألقاب، بل هما بوابتان لفهم كيف يدار النقاش العمومي اليوم من خلف ستار الأسماء المستعارة، ومشروعان خطابيان منظمان يعكسان صراعا أعمق تزداد حدته كلمات اقتربنا من  أبواب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

“عبد الحكيم الرواي” هو أكثر من اسم مستعار عابر، إنه صوت سلطة مقنعة.. يجمع الاسم بين “عبد الحكيم”، وهو ما قد يشير ضمنيا إلى أن الشخصية التي تتحرك في المسرح الرقمي هي “عبد” لحكيم يتوارى في الكواليس كمُلْهِم وعراب، وبين “الرواي” الناطق  باسم السردية الرسمية الموجهة، وخطاب الهيمنة.. هذا الصوت الافتراضي يتحدث بلغة المؤسسة، ويدافع بحماسة عن “النموذج التيزنيتي” كما يصوره، ويسوق لإنجازات التجربة الجماعية بمنطق إطلاقي يخلو من النقد الذاتي ونسبية المنجز.

والأمر الأكثر إثارة للتأمل هو أن “الرواي عبد الحكيم” قد لا يكون مجرد مواطن متحمس، بل يحتمل أن يكون شخصية عمومية أو مدبرا للشأن العام المحلي يختبئ خلف هذا القناع الرقمي، في محاولة لإعادة ترتيب قواعد الاشتباك الرقمي المواجه  للآخرين باستخدام آليتهم ومواقعهم، و وعيا منه بضرورة المزاوجة بين شخصية المدبر والمشتبك في نفس الوقت، بعد أن أثبتت التجربة هزالة  الآلة الاعلامية الحزبية للأحرار  محليا، وضعف إسنادها الاعلامي للحزب في العديد من المعارك الاعلامية، ورغم كل محاولات تسمين هذه الآلة أمام الصعود الاعلامي الرقمي المعارض للأحرار، التي تحولت الى اليكترونات حرة انتج خطابا ونحتت مفاهيما واسماء .. والمفارقة الأخرى  تكمن في ممارسة المواطن  الرقمي المخفي المنافح عن التجربة أو المدبر المشتبك  نوعا من “البروباغاندا الناعمة” ، فهو لا يظهر كحساب رسمي ناطق باسم الأحرار أو تشكيلة مصالحية، بل كمواطن “عادي” متحمس، مما يمنح خطابه مصداقية شعبوية زائفة.. إنه صوت يمكنه أن يتحدث عشية الانتخابات المقبلة عن الإكراهات وهشاشة الحلفاء ، بل والتضحية بهم.. ليعود الاسم المستعار بعدها إما بلغة الانتصار أو بلون سياسي  آخر وبرامج انتخابية جديدة حسب ما ستحدده الدولة من مصير سياسي “للأخ الاكبر” أخنوش  في الأشهر القادمة.. فالاسم المستعار إعلاميا  وسياسيا بلا ذاكرة، ويمكنه أن يقول الشيء ونقيضه ويخوض انتقالات مريحة بلا تكاليف.

إن هذه المفارقة ، واحتمال كون الصوت المقنع يعود لشخصية عامة، تطرح إشكالا عميقا، فكيف لمسؤول أو من يفترض أنه يتحمل المسؤولية العامة أن يمارس التأثير من وراء حجاب المجهولية؟ إنه يمثل حالة فريدة لتيار مسنود ومهزوز في نفس الوقت، يستفيد من امتيازات القرب من السلطة (معلومات، موارد، شبكات علاقات بجهات نافذة إدارية وأمنية واقتصادية ريعية..) بينما يحمي نفسه بدرع المجهولية، متحللا من تبعات الخطاب الرسمي المباشر ومساءلته العلنية أمام الرأي العام.

في الجهة المقابلة، تمثل “لالة زنينية”  الاسم الذي يحمل دلالات أنثوية مقدسة محلية في المخيال الشعبي ويوحي بحكمة متوارثة وشرعية احتكار بدايات التأسيس  والانتماء للمكان والذاكرة،  وصوت المعارضة المجهولة والضمير  الأخلاقي  للمدينة، والحساسية النقدية القادرة على خوض غارات خاطفة ودقيقة ونوعية، في ما يشبه حرب عصابات بمفهومها النبيل والمقاوم، ضد كافة أشكال الهيمنة والسلطة والاحتواء في الفضاء العام.. هذا القناع الافتراضي يقدم نفسه كضمير ناقد وكصوت للشارع الذي لا يجرؤ على الكلام، مقدما رواية مضادة لما يمكن تسميتها “السردية الرسمية” ولخطاب الهيمنة الجارف الذي يرعاه التجمع الوطني للأحرار محليا.

لكن هذا التمثيل الذي تحتمي به “لالة زنينية” يأتي بكلفة وتناقض أساسي، فغياب الهوية الحقيقية يعني غياب المساءلة المباشرة وإمكانية الأخذ والرد في النقاش بوضوح ..فكيف يمكن لصوت مجهول أن يدعي تمثيل الناس؟ إنها تعاني من “مفارقة التمثيل”  و تقدم نفسها كصوت الجميع، واحتكار  شرعية الحقيقة .. مما يعكس أزمة أعمق في الثقة بين المواطن والنخب المحلية، ومدى جرأة النخب الغاضبة على توليد بدائل جدية لما هو كائن اليوم..

تتعدد الدوافع التي تدفع الأشخاص للاختباء وراء هذه الأقنعة في طبقات متعددة، فهناك الخوف الوجودي في مدينة صغيرة كتيزنيت، حيث العلاقات معروفة والانتقاد العلني قد يكون انتحارا اجتماعيا أو مهنيا، فيوفر الاسم المستعار غطاء وجوديا.. وهناك متعة اللعب السياسي الذي يسمح بتجريب خطابات وأفكار قد تكون مكلفة بهوية حقيقية.. ورغبة البعض في الهروب من المساءلة، حيث يمكن للقناع بلا تاريخ ولا مرجعية  واضحة أن يناقض نفسه دون محاسبة، أو حتى الالتجاء إلى الصمت أو اجتراح هوية رقمية أخرى بخطاب مختلف دون الاضطرار لتقديم كشف حساب سياسي وفكري.

لا يمكن إنكار المكاسب التي يوفرها هذا النموذج، من إتاحة مساحة للمعارضة الخافتة والمرنة، وكسر احتكار السردية الرسمية في ظل تسييج الفضاء العمومي وتغول المقاربة الأمنية وحتى المكارثية الحزبية..”لالة زنينية” تستطيع طرح أسئلة قد لا يجرؤ مواطن معروف الهوية على طرحها علنا، كما يفتح المجال لأصوات كانت ستظل خافتة، ويوفر مساحة للتجريب الفكري، ويسمح بتسريب معلومات مهمة قد لا تصل عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية..

لكن الخسائر البنيوية مقلقة، فغياب الهوية يضعف المصداقية بشكل عميق، وعندما تصبح كل الأصوات افتراضية ومستعارة تفقد الكلمة قيمتها، و قد يفتح الباب للتشهير دون محاسبة، حيث أن الكلمة بلا وجه لا تحمل تبعات، مما يشجع على التطرف اللغوي.. ويجعل الحوار أقرب إلى حرب ظلال أو استقطاب مجهول لا يعرف فيها الجمهور من يقف وراء الأقنعة، ويسهل اتهام الخصوم بأي شيء.. كما يؤدي إلى تآكل الثقة في النقاش العمومي والمؤسساتي، حيث يتحول إلى مسرح لصراع مجهول الهوية. وعندما يظن الناس أن كل الأصوات مقنعة يفقدون الثقة حتى في الأصوات الحقيقية.

التحدي الذي تطرحه ظاهرة الأسماء الرقمية المستعارة، كما تجسدها حالة تيزنيت، هو كيفية تحقيق توازن بين الحق في الخصوصية والحماية، والواجب في المسؤولية والشفافية. وهذا يتطلب تطوير نموذج آخر لإعادة بناء النقاش العمومي، خاصة حين تكون الأقنعة قد تخفي في أحد أطرافها أشخاصا يفترض أن يكونوا في واجهة المسؤولية العامة.

النقاش العمومي في تيزنيت يقف على مفترق طرق… الأقنعة الرقمية قد تكون ضرورة مرحلية في مجتمعات تتعلم ديمقراطيتها أو تعيش في كنف سلطوية رخوة،  وتختبر حدود حريتها بحذر شديد، لكنها لا يمكن أن تكون بديلا دائما عن المواطنة المسؤولة التي تشارك في بناء الفضاء العمومي بشفافية وثقة ووضوح وشجاعة.. الحل ليس في إلغاء الأسماء المستعارة كليا، فهي توفر حماية ضرورية في السياق الوطني والمحلي الراهن، بل في تطوير ثقافة جديدة للنقاش  العمومي تقدر المضامين على الأسماء، وتطور آليات تتحقق من خلالها نوع من المساءلة المشروطة التي تحمي الهوية لكنها تفرض التزاما بأخلاقيات النقاش العمومي.

فالنقاش العام الصحي، سواء في تيزنيت أو غيرها، ليس الذي تختفي فيه الهويات، بل الذي تتحمل فيه جميع الأطراف المعروفة والمستعارة مسؤولية بناء الحقيقة والمساهمة في بناء المشترك.

تيزنيت، بوصفها ورشا مدنيا حيا أو على الأقل كما نتمناها، قادرة على أن تقدم نموذجا جيدا للنقاش العمومي، كتجربة الفضاء المدني وأغورا أنامور مثلا، وقادرة على أن  تجمع بين حكمة “لالة زنينية” ورواية “عبد الحكيم الرواي”، لكن بشفافية أكبر ومسؤولية أعمق..حتى يتسنى لنا أن نتحول من كرنفال الأقنعة السيبرانية إلى مسرح المواطنة الحقيقية والفعلية، ونمنح للنقاش العمومي فرجة جيدة بمعناها السياسي النبيل، التي تحرض على المشاركة واليقظة المدنية، وجدارة الانتباه إلى السياسات العمومية المحلية حين تكون هناك حقا سياسات عمومية محلية جديرة بالانتباه…

التعاليق (0)

اترك تعليقاً