العنف داخل المجالس الجماعية: حين تتحول قاعات التسيير إلى حلبات ملاكمة

مجتمع

بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية

تشهد الجماعات الترابية في المغرب، خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة آخذة في التفاقم، لم تعد تقتصر على بعض البلديات الكبرى كما كان الحال في الماضي، بل امتدت إلى أغلب الجماعات، الحضرية منها والقروية على حدٍّ سواء. إنها ظاهرة العنف داخل المجالس المنتخبة، حيث تتوالى المشاهد الصادمة لأعضاء يُفترض فيهم تدبير الشأن العام بحكمة واتزان، فإذا بهم يتبادلون اللكمات، ويكسرون الطاولات، ويتبادلون الشتائم أمام أنظار المواطنين وعدسات الكاميرات.

  • من التدبير إلى التناحر

لم يعد مشهد الفوضى داخل الدورات العادية أو الاستثنائية للمجالس المحلية حدثًا نادرًا أو معزولًا. فقد تحولت اجتماعات في مدن وقرى عديدة إلى ساحات صراع بين الأغلبية والمعارضة، أو حتى بين مكونات الأغلبية نفسها.
وحسب ما تنقله الصحف الوطنية ومواقع التواصل الاجتماعي من حين لآخر، فقد وصلت الأمور في بعض الحالات إلى إصابات جسدية ونقل مستشارين إلى المستشفى، كما حدث في عدد من المناطق، إثر خلافات حول نقاط في جدول الأعمال.
وفي أحيان أخرى، يتراشق الأعضاء بالكراسي أثناء المناقشات، وتصل الأمور في بعض الجلسات إلى انسحابات وفوضى عارمة تتسبب في توقيف أشغال الدورة لساعات.
ولم تسلم الجماعات القروية بدورها من هذه العدوى؛ ففي بعضها تحولت الدورات الاستثنائية إلى معارك كلامية وتخريب للمكاتب بسبب خلافات حول قضايا محلية أو مصالح شخصية.

  • أزمة أخلاق أم أزمة تكوين؟

يجمع المتابعون للشأن المحلي على أن ما يجري ليس مجرد انفعالات شخصية أو سوء تفاهم سياسي، بل هو عرض لمرض أعمق يمس البنية الأخلاقية والسياسية للنخب المحلية.
ويشير عدد من الباحثين والخبراء إلى أن تمادي بعض المنتخبين في سلوكات غير سوية داخل المجالس الجماعية هو نتيجة مباشرة لضعف التكوين والتأطير، ولغياب مدونة تضبط السلوك والأخلاق.
كما يؤكدون أن الكثير من المنتخبين لا يملكون معرفة كافية بالقوانين التنظيمية ولا بإكراهات التسيير الجماعي، ما يجعلهم يلجأون إلى العنف كوسيلة للتعبير عن الرفض أو الفشل في الإقناع.
ويذهب بعض المختصين في القانون والسياسة إلى أن جذور المشكلة تمتد إلى الأحزاب السياسية نفسها، التي ما تزال تُغرق المجالس بالأعيان ومقاولي الانتخابات الباحثين عن مصالحهم الخاصة أكثر من الصالح العام.
وتُعد هذه التصرفات في نظرهم وجهًا آخر للفساد السياسي، لأنها تُفقد المواطنين الثقة في المؤسسات وتُفرمل مسار التنمية.

  • الفضائح على مرأى من الجميع

لم تعد هذه الممارسات حبيسة الجلسات المغلقة، بل أصبحت تُبث مباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، في مشاهد تُثير الغضب والسخرية في آنٍ واحد.
فقد تداول رواد المنصات مؤخرًا مقاطع تُظهر مستشارين يتبادلون اللكمات داخل قاعة الاجتماعات، بينما تتطاير الكراسي وتُكسر تجهيزات الجماعة، في حضور ممثلي السلطات المحلية.
هذه المقاطع، التي كان يُفترض أن تعزز شفافية التسيير، تحولت إلى دليل إدانة جماعية يكشف مدى انحطاط مستوى النقاش العمومي في مؤسسات منتخبة يُفترض أن تكون نموذجًا في الديمقراطية والحكامة.

  • فقدان البوصلة السياسية

إن ما يجري اليوم في المجالس الجماعية ليس فقط عنفًا ماديًا، بل هو عنف رمزي ومعنوي ضد المواطنين أنفسهم، الذين منحوا ثقتهم لممثلين لم يرتقوا إلى مستوى المسؤولية.
فعندما يتحول النقاش حول ميزانية جماعة أو مشروع تنموي إلى تراشق بالألفاظ والضرب، فإن الرسالة التي تصل إلى المواطن هي أن “السياسة المحلية ليست وسيلة للتنمية، بل مسرح لتصفية الحسابات”.
كما تعكس هذه الوقائع هشاشة التحالفات السياسية داخل المجالس، حيث تغلب المصالح الشخصية والحزبية الضيقة على المصلحة العامة. فالأغلبية قد تنقلب بين عشية وضحاها، والمعارضة تتحول إلى أداة للعرقلة، والنتيجة واحدة: الجمود والعطالة في تدبير الشأن المحلي.

  • مدونة الأخلاقيات.. حلٌّ أم مسكّن؟

أمام هذا الوضع المقلق، تتعالى الأصوات المطالِبة بـإقرار مدونة خاصة للسلوك والأخلاقيات داخل المجالس الترابية، على غرار ما هو معمول به في البرلمان.
غير أن المختصين يحذرون من أن هذه المدونة، وإن كانت ضرورية، لن تكون كافية وحدها ما لم تُرفق بإجراءات مكمّلة، من قبيل:

-فرض تكوينات إلزامية ودورية للمنتخبين حول القوانين التنظيمية للجماعات.
-تفعيل آليات المراقبة والمساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة.
-إجراء إصلاح عميق في طريقة اختيار مرشحي الأحزاب لتفادي ظاهرة “الترحال السياسي”.
-تعزيز دور المجتمع المدني والإعلام المحلي في تتبع أداء المجالس.

  • خاتمة: زمن الحزم لا التهاون

إن ظاهرة العنف داخل المجالس الجماعية ليست مجرد “شغب سياسي” عابر، بل ناقوس خطر يهدد الديمقراطية المحلية، التي تُعد ركيزة أساسية في النموذج التنموي الجديد للمغرب.
إن ترك هذه السلوكيات دون ردع قانوني وتربوي سيؤدي إلى تآكل صورة المؤسسات المنتخبة في أعين المواطنين، وإلى مزيد من العزوف الانتخابي وفقدان الثقة في العملية الديمقراطية برمتها.
لقد آن الأوان لأن تتحمل الأحزاب السياسية، والسلطات الوصية، والمجتمع المدني، مسؤوليتها في وقف هذا الانحدار الأخلاقي، وإعادة الاعتبار للمجالس المنتخبة كمؤسسات للنقاش المسؤول لا كساحات للملاكمة.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً