بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
مرة أخرى، تثبت الأنظمة العجوزة في المنطقة المغاربية ان التاريخ عندها لا يتحرك إلى الأمام، بل يدور في حلقة مفرغة. فبينما العالم يناقش الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر، قررت الجزائر وتونس أن أفضل ما يمكن فعله في هذا الزمن هو توقيع اتفاقية دفاعية جديدة… دفاع عن من؟ ضد من؟ لا أحد يعرف بالضبط، لكن يبدو أن الهدف الحقيقي هو تسكين القلق الجزائري وتلميع الصورة التونسية.
- الجزائر تفتح المظلة… فوق رأس تونس
الخطاب الرسمي الجزائري يصف الاتفاق بأنه “شراكة استراتيجية”، وكأن الجيوش تتبادل الأدوار والمصالح على قدم المساواة. لكن من يقرأ الأرقام يدرك أن الحديث عن شراكة هو أقرب إلى المزاح الدبلوماسي:
الجزائر بميزانية دفاع تناهز 25 مليار دولار، وتونس التي بالكاد توفر 1.4 مليار دولار لتسديد رواتب جنودها. فكيف يُبنى التعاون بين من يملك جيشًا مدججًا بالدبابات ومن يملك ميزانية بالكاد تكفي لتعبئة سيارات “الجيب” في الصحراء؟
الواقع أن الجزائر لا تفتح ذراعيها “لدعم” تونس بقدر ما تمد مظلتها لتغطيها… تغطيها من الشمس أحيانًا، ومن نفسها أحيانًا أخرى.
- تونس: السيادة تحت الإنعاش
في تونس، حيث الأزمة الاقتصادية تنخر الدولة كما تنخر الرطوبة جدران البيوت القديمة، وجد النظام نفسه مضطرًا للقبول بكل “اقتراح أخوي” يأتي من الجار الغني بالنفط والغاز.
فما دام الخزّان الجزائري يمدّ بالكهرباء والوقود، فلا مانع من أن يمدّ أيضًا بالـ”توجيهات الأمنية”.
أما البيان الرسمي التونسي فقد حرص على استخدام كلمات مطمئنة من قبيل “التعاون الشامل” و”الثقة المتبادلة” وهي عادة الكلمات التي تُستخدم عندما تكون الثقة مفقودة تمامًا.
النتيجة؟ اتفاقية جديدة، غامضة البنود، وقّعت في هدوء تام، دون نقاش عام ولا مصادقة مؤسساتية. وكأن السيادة الوطنية أصبحت بندًا ثانويًا يمكن التفاوض عليه في جلسة شاي بين وزيرين مسنّين.
- شيوخ السياسة: عندما يحكم الماضي الحاضر
اللافت أن الاتفاق جاء في زمن تحكم فيه الدولتين نخب شاخت سياسيًا قبل أن تشيخ جسديًا.
نخب تعتقد أن الجغرافيا ما زالت تُرسم بالخرائط العسكرية، لا بالمشاريع الاقتصادية والتكامل التنموي.
ففي الجزائر، ما تزال الذهنية الأمنية تُدار بنفس عقلية “الثورة والتحرير”، وفي تونس تُدار الدولة بمنطق “الشرعية الفردية”، وكأننا أمام شطرنج عجوز لا يُبدل فيه اللاعبان مواقع القطع منذ نصف قرن.
ولأن الشيخ لا يتعلم حيلة جديدة، فها هم يحاولون بعث الماضي في ثوب اتفاق جديد، يقال إنه لتأمين الحدود، بينما الحدود الحقيقية التي تهدد البلدين هي حدود التفكير القديم والعجز عن التغيير.
- من الحدود إلى الصحراء… خيوط اللعبة الإقليمية
ثمّة من يرى أن الجزائر لا تبحث فقط عن شراكة، بل عن منفذ استراتيجي جديد بعد أن تلقت ضربات دبلوماسية موجعة على الصعيد الإقليمي، خصوصًا بعد أن اعترفت القوى الكبرى بسيادة المغرب على صحرائه .
وبينما أُغلقت أمامها أبواب الساحل الإفريقي، صارت تبحث عن “رقعة بديلة” لتثبيت حضورها في المنطقة ، رقعة يمكن أن تُؤوي رمزيًا أو فعليًا بقايا مشروع “تندوف” ومرتزقته التي جمعت من مختف الدول المجاورة ، الذين فقدوا بوصلة الدعم الدولي.
وفي هذا السياق، يبدو أن تونس، بحيادها الرمادي وعزلتها، قد تحولت إلى الفضاء المتاح الوحيد للمناورة الجزائرية، ولو تحت غطاء “التعاون الدفاعي”.
- الخلاصة: اتفاق بلا شفافية ولا توازن
في النهاية، لا أحد ينكر أن المنطقة المغاربية تواجه تحديات أمنية حقيقية، لكن ما يُنكر هو أن تُحل الأزمات عبر اتفاقيات غير متكافئة تُدار في الغرف المغلقة.
فالأمن لا يُشترى بالغاز، ولا تُبنى السيادة على القروض السياسية.
إن ما يجري اليوم هو تحالف الضرورة:
الجزائر تبحث عن دور مفقود، وتونس تبحث عن دعم مفقود، وبينهما تضيع الحدود بين التعاون والوصاية.
أما الشعوب، فهي تتابع المشهد بابتسامة مريرة، تدرك أن هذه الاتفاقية ليست إلا تبادلًا للضعف تحت لافتة القوة.
فحين تحكم الشيوخ وتُدار الدول كالمعاشات القديمة، يصبح “الاتفاق الدفاعي” مجرد اتفاق على من يتكئ على من… حتى يسقط الاثنان معًا.
التعاليق (0)