بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
على مدى نصف قرن، ظلت مخيمات تندوف في جنوب غرب الجزائر جرحاً إنسانياً مفتوحاً، تتقاطع فيه السياسة مع المعاناة، والمصالح مع المآسي. اليوم، وبعد مرور خمسين عاماً على إنشاء هذه المخيمات، عاد الملف إلى واجهة النقاش الدولي، بعدما ندد المغرب في جنيف بما وصفه بـ”الوضع الإنساني الشاذ” الذي يعيشه عشرات الآلاف من المحتجزين، داعياً المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى تسجيلهم فوراً وضمان وصول المساعدات إليهم بشفافية.
- المغرب: دعوة إلى إنهاء “الاستثناء الإنساني”
خلال الدورة الـ76 للجنة التنفيذية للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، دعا السفير المغربي عمر زنيبر المنظمة الأممية إلى ممارسة ولايتها الكاملة في تندوف، مذكّراً بأن “الحياد الإنساني لا يعني الصمت أمام الظلم”.
زنيبر شدّد على ضرورة إجراء تسجيل مستقل وفوري لسكان المخيمات، وهي توصية صادرة عن المفتش العام للمفوضية منذ عام 2005 لكنها بقيت، حسب قوله، “حبراً على ورق”.
كما دعا إلى ضمان حرية الوصول الإنساني إلى المخيمات، واحترام طابعها المدني، وتفعيل آليات المراقبة لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها لا إلى جيوب المنتفعين.
- تقارير أممية تدق ناقوس الخطر: الجوع يهدد آلاف النساء والأطفال
تحذيرات المغرب وجدت صدى في تقارير منظمات دولية عدة، كشفت عن واقع مأساوي يعيشه سكان المخيمات.
تقرير مشترك صادر عن المفوضية السامية وبرنامج الأغذية العالمي واليونيسف ومنظمة الصحة العالمية أظهر أن:
-13.6% من سكان المخيمات يعانون من سوء تغذية حاد.
-طفل من كل ثلاثة يعاني من التقزم.
-70% من النساء في سن الإنجاب مصابات بفقر الدم.
-فقط ربع الأسر يحصل على الحد الأدنى من التنوع الغذائي.
هذه الأرقام الصادمة تطرح سؤالاً مؤرقاً: كيف يستمر هذا الانهيار الإنساني رغم مليارات الدولارات التي صُرفت على المخيمات منذ خمسين عاماً؟
- دعم دولي يتضاعف… وأزمة تتعمق
من المفارقات الكبرى أن ميزانية الدعم الإنساني للمخيمات ارتفعت بـ37% بعد جائحة كورونا، وفق برنامج الأغذية العالمي، لكن الأوضاع المعيشية ازدادت سوءاً.
غياب الشفافية في إدارة المساعدات ورفض الجزائر السماح بإحصاء دقيق لسكان المخيمات يثيران شكوكا عميقة حول الأرقام الحقيقية للمستفيدين. وتشير تقارير إعلامية إلى أن آلاف الأشخاص من جنسيات إفريقية مختلفة يُدرجون ضمن قوائم اللاجئين لتضخيم أعدادهم، بما يسمح بجلب دعم أكبر.
- شهادات ميدانية تفضح “السوق السوداء الإنسانية”
الصحافية الإسبانية باتريثيا ماجيدي، التي زارت المخيمات سنة 2018، كشفت عن ممارسات خطيرة في وثائقيها “من تندوف إلى العيون: طريق الكرامة”.
ماجيدي تحدثت عن شبكة معقدة لتحويل المساعدات إلى تجارة، مؤكدة أن:
-الأدوية الموجهة للاجئين تُباع في صيدليات خاصة.
-المياه التي يقدمها الاتحاد الأوروبي مجاناً تُباع للسكان بأسعار مرتفعة.
-المواد الغذائية تُهرّب إلى أسواق دول مجاورة لتباع بأسعار السوق.
-وتضيف الصحافية أن “أموال دافعي الضرائب الأوروبيين تُستغل لتغذية منظومة فساد بدل إنقاذ البشر”.
- قيادة في البذخ.. وشعب في الجوع
في المقابل، تتحدث تقارير حقوقية عن مظاهر بذخ لدى قيادة جبهة البوليساريو.
منتدى “فورساتين” كشف أن زعيم الجبهة إبراهيم غالي يبني قصراً فاخراً في منطقة الرابوني، بتمويل من شبكات تهريب ورجال أعمال جزائريين، فيما يعيش اللاجئون في ظروف قاسية، يطاردهم الجوع والمرض والعزلة.
هذا التناقض الفاضح بين ترف القيادة وبؤس القاعدة يعكس طبيعة نظام يقوم على استغلال المعاناة الإنسانية لتثبيت سلطة سياسية متكلسة.
- الجزائر: دولة مضيفة تتنصل من المسؤولية
ورغم أن الجزائر تستضيف هذه المخيمات على أراضيها، إلا أنها ترفض تحمل مسؤولياتها القانونية والإنسانية، إذ تمنع إجراء إحصاء شفاف للسكان، وتغض الطرف عن تهريب المساعدات، وتمنع حرية التنقل.
هذا الموقف جعلها، في نظر مراقبين، شريكاً في المأساة لا مجرد مضيف محايد، خاصة وأنها تسمح بوجود قيادة عسكرية تفرض سيطرتها على السكان وتتحكم في مصيرهم.
- المجتمع الدولي أمام لحظة الحقيقة
الأزمة المتفاقمة في تندوف تطرح على المجتمع الدولي سؤالاً جوهرياً:
هل يواصل تمويل منظومة فقدت مصداقيتها، أم يتحرك لفرض الشفافية والمحاسبة؟
المطلوب، وفق خبراء إنسانيين، هو تحول جذري في آليات التدبير:
-إجراء إحصاء رسمي بإشراف الأمم المتحدة لتحديد هوية وعدد اللاجئين الحقيقيين.
-إنشاء آلية مراقبة صارمة لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها.
-محاسبة قيادة البوليساريو والجهات المتورطة في الاختلاس على استغلالها للمعاناة الإنسانية.
- خاتمة: مأساة تتجاوز الجغرافيا
إن أزمة تندوف لم تعد مجرد قضية لاجئين، بل أصبحت فضيحة إنسانية وسياسية تكشف كيف يمكن أن يتحول الدعم الدولي إلى وقود للفساد.
بينما يعيش الأطفال على فتات المعونات، ينغمس قادة الانفصال في الثراء والترف، وتبقى الجزائر صامتة أمام ما يجري فوق ترابها.
ويبقى السؤال معلّقاً:
إلى متى ستظل الإنسانية رهينة في صحراء تندوف، بين جوع المحتجزين وصمت العالم؟
التعاليق (0)