بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
في زمن أصبحت فيه المعرفة هي العملة الأكثر قيمة، تتجه الدول الصاعدة إلى بناء مؤسسات أكاديمية قادرة على خلق التأثير محليًا وتوسيع نطاقه عالميًا. ضمن هذا السياق، يبرز النموذج المغربي من خلال جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية (UM6P)، كمؤسسة لا تكتفي بتأدية دور الجامعة التقليدية، بل تسعى لإعادة تعريف موقع إفريقيا في منظومة الابتكار العالمية.
- الجامعة كفاعل جيو-معرفي
لم تعد الجامعات مجرد مؤسسات لنقل المعرفة، بل أصبحت أدوات استراتيجية للدبلوماسية الناعمة، وللهندسة الجيوسياسية. حين تُحدث دولة نامية جامعة بهذه الرؤية، وتُطلق لها فروعًا ومراكز في قلب القوى الاقتصادية العالمية – كما فعلت UM6P بإنشائها مركزًا في نيويورك وآخر في كامبريدج – فهي تعلن، ضمنيًا، أنها فاعل جديد في معادلة إنتاج المعرفة وليس مجرد مستهلك لها.
هذا الحضور الدولي لا يمكن قراءته خارج سياق التحولات التي يشهدها المغرب في علاقته بالقارة الإفريقية. إذ تسعى الرباط، عبر أدوات متعددة من ضمنها التعليم العالي والابتكار، إلى بلورة تموقع جديد للمغرب كقوة ناعمة إفريقية تمتلك القدرة على التأثير خارج حدودها.
- من “جامعة وطنية” إلى “جامعة قارية بعين دولية”
منذ تأسيسها سنة 2017، اختارت UM6P نهجًا تكامليًا بين البحث العلمي التطبيقي، ريادة الأعمال، والتعليم المرتبط بالتحولات التكنولوجية والبيئية. هي ليست جامعة منغلقة على محيطها، بل مشروع طموح يحمل في جوهره سؤالًا كبيرًا: كيف يمكن بناء نموذج إفريقي مستقل للابتكار؟
أكثر من 200 شراكة دولية، ومجتمع طلابي يضم 7300 طالب من 40 جنسية، بينها 1000 دكتوراه، كل ذلك يعكس التحول من نموذج تعليم تقليدي إلى نموذج شامل للتأثير. وليس من قبيل الصدفة أن تركّز الجامعة على ملفات بحجم الزراعة المستدامة، الذكاء الاصطناعي، الطاقات المتجددة، الأمن المائي… هذه ليست فقط قضايا معرفية، بل تحديات وجودية للقارة الإفريقية.
- المركز العالمي في نيويورك: جسور لا جدران
يمثل افتتاح مركز UM6P في نيويورك لحظة مفصلية. فهو ليس فقط مقراً إداريًا أو رمزًا دوليًا، بل هو فضاء إنتاج معرفي عابر للحدود. بحسب المدير العام للمركز، مهدي الخطيب، فإن الفكرة تقوم على نقل المعرفة عبر آلية “الفرق المتطابقة”، أي اشتغال باحثي الجامعة مع نظرائهم في الجامعات الأمريكية على مشاريع مشتركة، مع الحفاظ على ارتباطهم بقضايا القارة.
هذه المقاربة – التي تجمع بين التدويل والتجذّر المحلي – تسعى إلى خلق دورة معرفية دائرية، حيث تصبح الحركية الأكاديمية محفّزًا للعودة وليس للهجرة الدائمة. وهذا بحد ذاته تفكيك ذكي لمنظومة “نزيف العقول” التي لطالما كانت إحدى المعضلات الكبرى في إفريقيا.
- المعرفة في خدمة السيادة الإفريقية
ما تقوم به جامعة محمد السادس ليس فقط توسعًا أكاديميًا، بل إعادة تعريف لدور الجامعة في التنمية والسيادة. فحين تصبح الجامعة منصة لربط الشركات الناشئة الإفريقية بشبكات رأس المال العالمية، وتستضيفها في بيئة مثل كامبريدج، فهذا يعني أنها تتجاوز دور “الناقلة للمعرفة” إلى دور “المهندسة للفرص”.
ثم إن اختيار التخصصات ذات الأولوية – من الزراعة إلى الطاقة والذكاء الاصطناعي – يعكس وعيا عميقا بأولويات القارة، ويجعل الجامعة ليست مجرد تابع للمشهد العلمي العالمي، بل شريكًا في صياغة أجنداته.
- نحو منصة إفريقية للابتكار العابر للحدود
الهدف المعلن للجامعة ليس فقط تعزيز موقع المغرب، بل تشكيل شبكة معرفية إفريقية ذات امتداد عالمي. لهذا فهي تعمل مع مراكز وجامعات في ثلاثين دولة إفريقية، وتسعى لأن تكون منصة شراكة إقليمية تجمع الجامعات، المختبرات، الشركات، والمبتكرين داخل القارة وخارجها.
ما يحدث اليوم، من خلال جامعة محمد السادس، هو إعادة تموقع لإفريقيا في سلاسل إنتاج القيمة المعرفية. وهي خطوة تفتح الباب أمام نموذج جديد من “العولمة المعرفية” التي لا تكتفي بتلقّي المعارف من الشمال، بل تبتكر من الجنوب، للعالم.
- المعرفة ليست محايدة
في نهاية المطاف، لا يمكن فصل الجامعة عن السياسة، ولا المعرفة عن السلطة. وما تفعله UM6P هو بناء نوع جديد من السلطة الناعمة المغربية – الإفريقية، قاعدتها البحث والتعليم، وأدواتها الشراكة والتكنولوجيا، وغايتها تحقيق التنمية المستدامة من الداخل.
قد تكون هذه الجامعة في ظاهرها مؤسسة تعليمية، لكنها في عمقها مشروع استراتيجي يحمل ملامح مستقبل إفريقيا التي تنتج معرفتها، وتستثمر في كفاءاتها، وتفرض وجودها بندّية في المشهد العالمي.
التعاليق (0)