القصة التالية من أرشيف الإعلامي المغربي الراحل عبد الصادق بن عيسى، الذي أبدع على مدى سنوات في سرد أشهر الملفات البوليسية الحقيقية عبر أثير إذاعة ميدي1.
تعمل أكادير 24 على إعادة نشر هذه القصص في صيغة مكتوبة، وفاءً لروح هذا الإعلامي الكبير، ولإتاحة هذا التراث السردي للأجيال الجديدة من القراء.
القصص الحقيقية لا تحتاج إلى تزويق
نقدم لكم قصة حقيقية من قلب الواقع، تغيرت فيها الأسماء وحُوربت بعض التفاصيل للحفاظ على الخصوصية، لكن الجوهر بقي صادماً في دلالته.
هذه قصة أستاذ قرر أن يكون نزيهاً في زمن صار فيه الصدق غلطاً، والاستقامة جريمة.
الفصل الأول: دروس الدعم… تجارة تربوية بلا ضمير
في السنوات الأخيرة، تفشت ظاهرة مخيفة في المدارس العمومية، حيث تحولت دروس الدعم إلى سوق سوداء يتبارى فيها الأساتذة لاستنزاف جيوب الآباء. لم يعد الأمر يتعلق بمساعدة التلاميذ الضعاف، بل صارت عملية ممنهجة لبيع النقط و”تضخيم” المعدلات. والأدهى من ذلك أن بعض الأساتذة صاروا يختلقون صعوبات وهمية في الدروس لدفع التلاميذ نحو الدروس الخصوصية.
وسط هذه العاصفة، وقف الأستاذ سلام محفوظ، مدرس الرياضيات، كشجرة وارفة في صحراء قاحلة. رفض أن يخضع لهذا النظام الفاسد، وآمن أن الحصص القانونية كافية لمن يريد التعلم. لكنه لم يكن يعلم أن نزاهته ستكون سبباً في كوارث لم يتوقعها.
الفصل الثاني: الأستاذ سلام… الصارم الذي أزعج الجميع
كان الأستاذ سلام رجلاً في عقده الثالث، قوي البنية، صارم الملامح، لا يبتسم كثيراً لكنه عادل إلى أبعد الحدود. في فصله، لم يكن هناك مجال للمحسوبية. النقطة كانت تُمنح لمن يستحقها، سواء كان ابن وزير أو ابن عامل. هذه الصرامة جعلت منه قدوة للمجتهدين، لكنها في المقابل أشعلت حقد المتكاسلين. بعض التلاميذ كانوا يتذمرون قائلين: “لماذا لا يعطينا نقطاً مثل باقي الأساتذة؟”، بينما كان زملاؤه المدرسون ينظرون إليه بعين الشك معتبرين أنه “يعرقل تجارتهم!”.
الفصل الثالث: الحصة المجانية التي أشعلت الفتيل
مع اقتراب امتحانات البكالوريا، لاحظ الأستاذ سلام أن مجموعة من التلاميذ يعانون من فهم درس معقد في الرياضيات، فطلب من الإدارة السماح له بحصة دعم إضافية مجانية. الحصة استمرت ثلاث ساعات، لكن الغياب كان لافتاً؛ إذ أن بعض التلاميذ الذين كانوا بأمس الحاجة للمساعدة لم يحضروا!
وعندما خرج الأستاذ من الثانوية مساء ذلك اليوم، فوجئ بأنه محاط بمجموعة من الشبان. تعرف على بعضهم: كانوا تلاميذ غائبين عن حصصه منذ أسابيع. أحدهم كان يحمل سيفاً، وآخرون هراوات. لم يكن لديه وقت للتفكير.
الفصل الرابع: الدفاع عن النفس… وجثة بين يديه
حاول الأستاذ سلام تفادي المواجهة، لكن الهجوم كان شرساً. استخدم مفتاح رافعة سيارته للدفاع عن نفسه، وفي خضم المعركة، سمع صرخة مدوية. أحد التلاميذ، عبد الإله شفيق، سقط على الأرض ينزف. وقبل أن يدرك الأستاذ ما حدث، كان التلميذ قد فارق الحياة.
وصلت الشرطة بسرعة إلى مكان الحادث، وكان العميد ممتاز محمد الحراق، رجل التحقيقات المخضرم، أول من باشر الإجراءات. وجد نفسه أمام لغز محير: أستاذ محترم يتهمه تلاميذه بالعنف، وجثة شاب في ريعان العمر.
الفصل الخامس: التحقيق… بين الأكاذيب وشريط الفيديو الصادم
قدّم التلاميذ المعتدون رواية موحدة تدّعي أن “الأستاذ هاجمنا بدون سبب!”، بل إن بعضهم اتهمه بالتحيز لصالح التلميذات. لكن التحقيق لم يلبث أن كشف زيف أقوالهم، إذ شهد مدير المدرسة بنزاهة الأستاذ سلام، وأكد أن سلوكه التربوي كان دائماً نموذجياً.
كما أن تلاميذ آخرين قرروا كسر جدار الصمت، وأفادوا أن المعتدين كانوا معروفين بتعاطي المخدرات وتهديد الأساتذة. أما أخت القتيل، فكشفت أن شقيقها كان مطروداً مؤقتاً بسبب سلوكه السيء، وأنه تلقى أكثر من إنذار خلال الموسم الدراسي.
لكن المفاجأة الكبرى ظهرت عندما تم العثور على شريط فيديو سجله أحد التلاميذ قبل أن يختفي خوفاً من الانتقام.
الفيديو أظهر بوضوح أن التلاميذ هم من بدأوا الهجوم، وأن الطعنة القاتلة لم تكن من الأستاذ، بل جاءت نتيجة شجار داخلي بينهم.
العدالة تنتصر… لكن الحرب لم تنته
أُطلق سراح الأستاذ سلام بعد أن تبين أنه كان في وضعية دفاع عن النفس، بينما سيقضي التلاميذ المعتدون سنوات في السجن. غير أن القصة تركت جرحاً غائراً في جسد المنظومة التعليمية، وطرحت أسئلة مؤلمة:
كيف وصل الحال ببعض التلاميذ إلى حمل السكاكين ضد أساتذتهم؟
ولماذا يُكافأ المخلصون مثل الأستاذ سلام بالاتهامات والأزمات؟
القصة انتهت، لكن الدرس باقٍ.. عندما يصبح التعليم تجارة، فإن أول الضحايا هم الأستاذ النزيه والتلميذ المجتهد.
التعاليق (0)