الحرب على أوكرانيا وأوروبا التائهة بين أمريكا وروسيا

الحرب على أوكرانيا كُتّاب وآراء

أكادير24 | Agadir24

 

الحرب على أوكرانيا وأوروبا التائهة بين أمريكا وروسيا

 

العلاقات السائدة بين الدول سواء كانت علاقات تحالف أو تصارع لا يمكن فهمها فهما جيدا بالاقتصار على تحليل المعطيات الراهنة. فالتاريخ له أهمية قصوى إن لم نقل المحدد الأساسي في فهم هذه العلاقات بما فيها الحروب التي يكون السبب المباشر في اندلاعها يُخفي غابة من المعطيات التاريخية التي تُفضي إلى نشوب هذه الحروب. هذا ما ذهب إليه هيغل حين تحدث عن جدلية التاريخ، وهو الأمر الذي عبَّر عنه ابن خلدون بقوله: “التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق”.

الحرب التي تخوضها روسيا على أوكرانيا تخضع هي الأخرى لمنطق التاريخ، وهو ما سنتطرق له في هذا المقال. لكن قبل ذلك نشير إلى أن هذه الحرب تحولت إلى مواجهة بين روسيا وأمريكا رغم أن هذه الأخيرة بعيدة جغرافيا عن رقعة المواجهة. وهو ما يجعلها حربا بخصوصيات جديدة حيث تستعمل روسيا سلاح الدمار بينما تستعمل أمريكا سلاح العقوبات الاقتصادية، في حين تقف أوروبا التي تُقرَع طبول الحرب على حدودها، موقف التائه والتحالف الضعيف.

سنبدأ استكشاف الجذور التاريخية لهذه الحرب بالبلد الذي شرع في الهجوم أي روسيا وسنعود إلى حقبة روسيا القيصرية. فخلال هذه الحقبة تعرضت البلاد الشاسعة لهجمات المغول وكذلك لغزو نابوليون الذي وصل إلى وسط موسكو. وفي عهد الاتحاد السوفياتي تعرضت الأراضي الروسية للهجوم الألماني والنمساوي خلال الحرب العالمية الأولى. ولغزو ألمانيا النازية حيث وصلت قوات هيتلر أبواب العاصمة موسكو في الحرب العالمية الثانية.

هذه الأحداث كلها جعلت الروس يتوجسون من الدول القابعة على الحدود التي تفصلهم عن باقي العالم والتي تفوق 14 دولة بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي، ومن الصعب إقامة علاقات حسن الجوار مع هذا العدد الكبير من الدول. ومما عمَّق حدة التوجس الطبيعة الجغرافية لبلاد الروس التي لا نجد فيها حدودا جغرافية طبيعية تفصلها عن دول الجوار كالجبال والوديان والمحيطات مثلا. هذه الطبيعة الجغرافية الغير مساعدة على إرساء حدود آمنة، جعلت العمق الروسي معرضا لتهديد مستمر وهو ما وقع خلال هجمات المغول ونابوليون وهتلر حيث وصلت جيوشهم حتى العاصمة موسكو. هذا التاريخ كرَّس في ذهنية الروس خطر الهجمات الخارجية التي تهدد وجودهم وعززت في تفكيرهم فقدان الثقة في دول الجوار وخلقت عقلية روسية لا تشعر بالأمان اتجاه الجار.

هذه اللمحة التاريخية تفسر الرفض القاطع لروسيا الاتحادية بتواجد الحلف الأطلسي على حدودها. ومن هنا نفهم اعتبار الروسي صراعهم مع أوكرانيا صراعا وجوديا يهدد الكيان الروسي برمته. نفهم كذلك الإصرار الروسي على فرض حكومة أوكرانية تابعة لها، أو على الأقل دولة محايدة غير خاضعة للحلف الأطلسي مهما كلف الأمر من ثمن ومهما بلغت حدة العقوبات الاقتصادية ما دام الروس يعتبرون حربهم هذه حربا وجودية: أن نكون أو لا نكون. في المقابل نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعاني من هذا الإشكال الجغرافي. بل على العكس من ذلك الوضع الجغرافي لأمريكا يساعدها على الاستقرار ولا يطرح لها أي خطر من دول الجوار. الولايات المتحدة الأمريكية يفصلها عن العالم المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، ونجد في الشمال كندا وفي الجنوب المكسيك، وهي وضعية جغرافية مثالية بالنسبة لدولة عظمى.

لذلك تكون الصراعات التي تخوضها أمريكا ذات طابع استراتيجي لحماية مصالحها، ويكون مصرح المواجهة بعيدا عن أراضيها، ولا يمكننا الحديث عن صراع وجودي كما هو الشأن بالنسبة لروسيا. منذ فترة السوفييت وأمريكا تتوجس من تطوير الروس للسلاح النووي ومن تدخلاتهم في كثير من الدول لفرض أنظمة موالية لها. على هذا الأساس نفهم عدم رغبة أمريكا في الدخول في مواجهة مباشرة مع الروس ولو عن طريق الحلف الأطلسي، وتخوض حربها وفق طبيعة حدودها الجغرافية بحماية مصالحها عن طريق سلاح العقوبات الاقتصادية وبعيدا عن صوت المدافع. في المقابل نجد روسيا الاتحادية تتوجس من تطوير أمريكا للسلاح التقليدي ورغبتها في توسيع الحلف الأطلسي “الناتو” ليصل الحدود الروسية وهو ما يفرض عليها الدخول في حرب مدمرة لأن الأمر يتعلق بتهديد العمق الروسي، عكس أمريكا التي تكتفي بالحرب الاقتصادية في انسجام تام مع وضعها الجغرافي.

أبانت الحرب على أوكرانيا الضعف الكبير الذي وصلت إليه أوروبا. فهذه الأخيرة تخضع للوصاية الأمريكية ولها مصالح اقتصادية مع روسيا. القارة العجوز وقعت ضحية الاستراتيجية الأمريكية القائمة على أساس جعل بلاد العم سام القوة الاقتصادية الأولى عالميا وعدم السماح لأي قوة أخرى بالتفوق عليها اقتصاديا، وكذلك الحفاظ على تفوقها العسكري لضمان قدرتها على حماية مصالحها الاقتصادية. فوقع الاتحاد الأوروبي في شِرك عدم قدرته على مواجهة روسيا عسكريا رغم أن الحرب تقع على حدوده، وعدم استطاعته الابتعاد عن وصاية الإمبراطورية الأمريكية المتفوقة عليه اقتصاديا. هذا التأرجح بين التفوق العسكري الروسي والتفوق الاقتصادي الأمريكي، حكم على الأوروبيين بالتيه والضعف في حسم القرار. ولعل أبز تجليات هذا التيه هو موقف بريطانيا المعادي للروس وعلى نقيضه موقف ألمانيا المهادن وبينهما الموقف الفرنسي الذي يبحث عن جسور الحوار والتفاهم مع الروس مهما تطلب الأمر.

هكذا يجعلنا التاريخ نفهم بعمق حقائق الحروب، ونفهم أن روسيا تخوض في اعتقادها حربا وجودية، لن تنهيها إلا بعد تحقيق أهدافها، ولا يهم الثمن المطلوب ما دام الأمر يتعلق بوجود كيان واستمراره. والدول التي تأثرت بهذه الحرب، بما فيها الدول العربية، عليها أن تأخذ بالحسبان هذه المعطيات لتقليص التأثيرات السلبية للحرب عليها.

سعيد الغماز 2

 

 

 

سعيد الغماز

التعاليق (0)

التعاليق مغلقة.