الصورة النمطية هي النافدة التي ينظر منها معظم الناس اليوم إلى العالم من حولهم، وتكرَّس دور الصور النمطية في تشكيل الوعي الجمعي والفردي بفعل قوة الإعلام الذي يعتبر اليوم أكبر منتج للصور النمطية وأكبر مغذ لها. و خطورة الصور النمطية تكمن في كونها تسيطر على الفكر وتوجه الرأي في التعامل مع مختلف القضايا. وتساهم في تشكيل المواقف و التوجهات لدى الأشخاص والجماعات بشكل تحكمي إلى حد بعيد. و من خلال فحص النقاش العمومي الذي تحتضنه وسائل الإعلام، خاصة على الشبكة العنكبوتية، نجد أن “محاكمة” النصوص الدينية وخاصة القرآنية منها، تعاني من انتشار صور نمطية تنتهي عمليا في خندق “داعش” وأخواتها، حين تؤكد بكل قوة أن القرآن مصدر الإرهاب والتطرف، وليس الفهم السيئ للدين والقرآن.
ويفيد منطق تلك “المحاكمة” لنصوص القرآن، الناتج عن الصورة التي يروجها الإعلام، وخاصة الغربي، عن الدين وكتابه المنزل، أن “داعش” وأخواتها عبر التاريخ هي التي تفهم القرآن وتنفذه، و هي التي تلتزم بالدين الإسلامي حق الالتزام، وليس أزيد من مليار مسلم، ولا الغالبية العظمى من المسلمين عبر تاريخ يمتد لأزيد من 14 قرنا من الزمن. ويقارب ذلك المنطق الإرهاب والعنف على أنهما ظاهرة دينية وليس ظاهرة اجتماعية وسياسية وفكرية، الدين فيها يوظف توظيفا سيئا.
ويذهب هذا التوجه المتطرف في حكمه على الدين والقرآن، بغير علم، حد تحويل المعركة من استهداف “داعش” وأخواتها، واستهداف الفهم السيئ للدين وتأويل نصوصه الباطل، إلى استهداف الدين نفسه، واستهداف نصوصه المقدسة. و لا تحتاج مناقشة هذا التوجه كثير عناء في بيان أن خيار محاربة الدين ونصوصه تحت غطاء محاربة التطرف والإرهاب، خيار فاشل، وأن الجهود التي تبدل في سبيل ذلك تصب في مصلحة الإرهاب في نهاية المطاف.
لقد بدأ اليوم توجه تصحيحي في الغرب لمواجهة الصورة النمطية ضد الأديان وخاصة الإسلام، بعد تنامي توجهات متطرفة خطيرة تجمعها عقيدة “الإسلاموفوبيا”. وأدرك كثيرون، دولا و منظمات وشخصيات مؤثرة، أن ما يعتقده الناس وما يروج في الإعلام عن الإسلام وعن القرآن بالخصوص يعاني من صور نمطية خطيرة غير صحيحة. و أن الإعلام الغربي يقدم الإسلام، مقارنة مع المسيحية واليهودية، على أنه الأكثر عنفا والأقل رحمة.
و في إطار الجهود المشار إليها، يمكن الاستئناس في هذا الإطار بعملين حديثين. فقد دفعت موجة “الإسلاموفوبيا” المتصاعدة في أمريكا بمهندس في الإعلاميات إلى إنجاز دراسة مقارنة بين النصوص القرآنية والنصوص الإنجيلية. كما قام ناشطان هولنديان، لنفس الأسباب، بـ”تجربة سوسيولوجية” ترتكز على تقديم نصوص منتقاة من الإنجيل للمارين في الطريق على أنها نصوص قرآنية. فماذا كانت نتيجة العملان، كما قدمتها وسائل إعلام غربية؟
نتيجة العملين المشار إليهما هو تأكيد الحجم الكبير لحضور الصور النمطية السلبية ضد القرآن في الأذهان، ودورها في تشكيل المواقف والآراء المتحيزة ضد الإسلام والمسلمين. فبالنسبة للدراسة المقارنة للنصوص، حسب نفس المصادر الإعلامية، اعتمد الباحث الأمريكي على برنامج خاص قام بمسح شامل لنصوص القرآن ونصوص الإنجيل (العهد الجديد و القديم)، وقام بمقارنة بين تلك النصوص من حيث تردد مصطلحات تتعلق بالعنف والحب والرحمة وغيرها من المصطلحات ذات العلاقة بأهداف الدراسة، واكتشف أنه خلاف الصورة النمطية المنتشرة بين الناس وفي وسائل الإعلام، فالقرآن أقل عنفا من الإنجيل في عهديه، بل صنف بطلا في قيم الرحمة. وهذه الخلاصة الأساسية اعتبرت مفاجئة مقارنة مع ثقل الصورة الرائجة عن القرآن.
وبالنسبة للتجربة التي قام بها الهولنديان، اعتمدت على اختيار نصوص من الإنجيل حول العنف وعرضها على المارين على أنها نصوص من القرآن، وكانت النتيجة مفاجئة أيضا حيث لم يصدق المستجوبون، الذين أعلنوا موقف رافضة قوية لتلك النصوص، أنها من الإنجيل. وعبروا عن أسفهم البليغ للأحكام الجاهزة التي يحملونها في رؤوسهم عن القرآن.
هذا المجهود التصحيحي للصور النمطية عن القرآن، وعن الإسلام عموما، لا يحتاجه الغربيون فقط، بل تكشف مضامين ما يروج في وسائل الإعلام، والنقاشات في المواقع الاجتماعية، أن كثيرين منا يعانون من الصور النمطية السلبية ضد دينهم و نصوص القرآن، خاصة فيما يتعلق بالإرهاب والعنف و التطرف. فيصر البعض، دون علم، على الاصطفاف إلى جانب الجماعات الإرهابية في اعتماد النصوص وفي تأويلها، على أنها موافق للدين وأحكام القرآن! كأن القرآن أنزل على “داعش” أو أن الإسلام جاء مع ظهور “طالبان” و “بوكو حرام” ومن كان قبلهم من الحركات المتطرفة.
إن الجهود المطلوبة في محاربة الإرهاب و التطرف ينبغي أن تتسلح بقدر كبير من النزاهة والموضوعية، و لكن بقدر أكبر من الذكاء. وان تتجه تلك الجهود إلى تصحيح الصور النمطية ضد الدين، والتي تلعب دور المهيج بالنسبة للتطرف والإرهاب، ودور مصوغ توجهات التطرف نحو العنف والإرهاب. و أن تتجه إلى تغليب التأويل المعتدل للنصوص الدينية، ومحاصرة التأويلات الفاسدة
حسن بويخف
هل نحارب “داعش” وأخواتها أم نصوص القرآن؟

التعاليق (0)
التعاليق مغلقة.