قبل الحديث عن مضمون هذا النداء، وتحديد الهدف منه، لا بد من التوضيح التالي:
الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفا، ولا تقنية محصورة على أصحاب “البريستيج”. كما أنه من الخطأ الاعتقاد بأن مطلب أكادير مدينة ذكية، يدخل في خانة المطالب التي تنتمي لعالم المثل الأفلاطوني، من باب المثل الشعبي “آش خاصك آالعريان…خاتم أمولاي”.
أعرف مسبقا أن البعض سيضع مطلب “أكادير المدينة الذكية” في كفة، ويضع واقع مدينة أكادير ومشاكلها مع الكلاب الضالة وأطفال الشوارع والنظافة وغيرها من المشاكل في كفة أخرى. ومن الطبيعي أن يقوده منطق أرسطو إلى أن الحديث عن المدينة الذكية في حالة أكادير، هو حديث لا يستقيم، وبعيد كل البعد عن الواقع.
من الخطأ هذا الاعتقاد، ولا ينبغي أن يقودنا ضعف الإلمام بالذكاء الاصطناعي، وما يعرفه من تطور متسارع، إلى اعتبار مطلب المدينة الذكية ضرب من الخيال. فالمشاكل التي تتخبط فيها مدينة أكادير، يمكن للذكاء الاصطناعي معالجتها بأقل تكلفة، وضمان تطور المدينة في المستقبل بدون أخطاء وبدون قرارات غير مدروسة. وهو ما سيجنب المدينة مستقبلا يعاني من أعطاب مكلفة نتيجة أخطاء الحاضر.
أولا ينبغي أن نعرف بأن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءً من البنيات التحتية للمدن التي تعرف تطورا متسارعا كما هو حال مدينة أكادير. فكما نتحدث عن الشوارع والأنفاق والإنارة وشبكات التطهير السائل والماء والكهرباء والاتصالات….نتحدث كذلك عن الذكاء الاصطناعي الذي يجب إدخاله في برامج التأهيل الحضري للمدينة.
لماذا أصبح الذكاء الاصطناعي ضروري في البنيات التحتية للمدينة:
في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، أصبح التحول نحو المدن الذكية ضرورة مُلحَّة وليس مجرد خيار. تواجه المدن التقليدية تحديات متزايدة في مجالات مثل النمو السكاني، التوسع العمراني، التغير المناخي، استهلاك الطاقة، ازدحام المواصلات، ونقص الخدمات العامة. من هنا، ظهر مفهوم “المدينة الذكية” كحل مبتكر وشامل لهذه التحديات، حيث تُدمج التكنولوجيا الرقمية مع البنى التحتية والخدمات الحضرية لتحسين نوعية الحياة للمواطنين، وتعزيز الكفاءة والشفافية في إدارة المدن.
الذكاء في المدينة لا يعني فقط التقنية والتكنولوجيا، بل يشمل الإدارة الحكيمة، الشفافية، والمشاركة المجتمعية.
كيف نجعل من أكادير مدينة ذكية:
العناية التي أولاها جلالة الملك لمدينة أكادير، جعلها تحظى ببرنامج كبير وطموح للتأهيل الحضري. وتشهد المدينة طفرة غير مسبوقة في تطوير بنياتها التحتية. فما هو المطلوب لإدخال الذكاء الاصطناعي كعنصر من مكونات البنيات التحتية؟
يجب على المشرفين في تدبير المدينة، القيام من الآن بتثبيت المستشعرات (Les capteurs) في البنيات الأساسية (إشارات المرور- نقاط تجميع النفايات – نقاط قياس جودة الهواء والماء – نقاط مراقبة المساحات الخضراء……) – تثبيت الكاميرات وربطها بشبكة الأنترنيت – ربط الإنارة العمومية بالأنترنيت – توسيع شبكة خاصة من الألياف البصرية (Réseau Fibre Optique) وأخيرا إنشاء مركز رقمي لتجميع المعطيات.
هكذا إذا تصبح جميع المرافق والبنيات التحتية عبارة عن بنك من العطيات متوفر في المركز الرقمي الخاص بالمدينة. هذا المركز سيصبح هو المجلس الجماعي الرقمي الذي يتحكم في المدينة ويصدر القرارات. على سبيل المثال، يمكن من خلال هذا المركز الرقمي تحديد ساعات اشتغال الإنارة العمومية لترشيد استهلاك الطاقة، تحديد المسار الأكثر نجاعة والأقل كلفة لشاحنات جمع النفايات بحيث تستهدف هذه الشاحنات الأحياء حسب كمية النفايات، بدل مسار محدد بشكل عشوائي ولا يتغير – التحكم عن بعد في إشارات المرور وضبط كيفية اشتغالها حسب الوضعية الآنية لتدفق حركة المرور عوض وضعية ثابتة لهذه الإشارات وهو ما لا يمكنه معالجة الازدحام الذي تعرفه المدينة…..إلى غير ذلك من الأمثلة.
الاهتمام بالبنيات التحتية الرقمية لمدينة أكادير منذ الآن، سيتطلب تكلفة مالية أقل بكثير مما سيتطلبه الأمر إذا عرفت المدينة تسوعا عمرانيا كبيرا، ونموا سكانيا كثيفا في ظل غياب أي بنية تحتية للذكاء الاصطناعي.
فعلى سبيل المثال وضع أحبال الألياف البصرية مع أشغال توسيع الشوارع، لا يكلف ميزانية كثيرة، قياسا إلى وضع نفس الأحبال بعد سنوات، لأن الأمر سيتطلب إعادة البنيات التحتية من جديد. وإذا عرفنا أن الألياف البصرية انخفضت تكلفتها حتى أصبحت تربط المنازل في الأحياء الشعبية، ندرك مدى أهمية الاهتمام بالبنية الرقمية منذ الآن، لتجنب تكلفة باهظة حين يفوت الأوان وتعرف المدينة توسعا لا يساعد على إقامة بنية رقمية بتكلفة معقولة.
ما هي المدينة الذكية؟
المدينة الذكية هي مدينة تستخدم تقنيات المعلومات والاتصالات لتحسين جودة الخدمات العامة، وزيادة كفاءة العمليات، وتمكين المشاركة المجتمعية، وتحقيق الاستدامة البيئية. بعبارة أخرى، تعتمد المدينة الذكية على أنظمة ذكية لجمع البيانات من مختلف المصادر (مثل المستشعرات، والكاميرات، والأجهزة الذكية)، ثم تحليل هذه البيانات لاتخاذ قرارات مبنية على معلومات دقيقة وفي الوقت الحقيقي.
تتجلى ملامح المدن الذكية في مجالات متعددة مثل النقل، الطاقة، الأمن، التعليم، الرعاية الصحية، وإدارة النفايات. فعلى سبيل المثال، تستخدم بعض المدن أنظمة مرور ذكية لتقليل الازدحام، وأخرى تعتمد على الطاقة المتجددة وأنظمة الإضاءة الذكية لتقليل استهلاك الكهرباء.
عناصر ومكونات المدينة الذكية
تتكون المدينة الذكية من مجموعة من العناصر الأساسية التي تتكامل فيما بينها لتشكّل منظومة ذكية فعالة، ومن أهم هذه العناصر:
-1- البنية التحتية الرقمية: تشمل شبكة الإنترنت عالية السرعة، ومراكز البيانات، وشبكات الاتصالات، وهي الأساس الذي يُبنى عليه النظام الذكي.
-2- أنظمة النقل الذكية: مثل إشارات المرور التكيفية، وتطبيقات تتبع وسائل النقل العام.
-3- إدارة الطاقة الذكية: تعتمد على استخدام العدادات الذكية، والطاقة المتجددة، وتوزيع الأحبال الكهربائية بكفاءة.
-4- الخدمات الجماعية الرقمية: توفير الخدمات للمواطنين عبر الإنترنت، مثل استخراج الوثائق الرسمية أو تقديم الشكاوى.
-5- البيئة الذكية: إدارة النفايات بطرق تقنية، ومراقبة جودة الهواء والماء، وزيادة المساحات الخضراء.
-6- الأمن الذكي: استخدام الكاميرات المتصلة بالذكاء الاصطناعي لمراقبة الأماكن العامة والتنبؤ بالمخاطر.
أهداف المدينة الذكية
تهدف المدن الذكية إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية، منها:
تحسين جودة الحياة: عبر توفير خدمات أكثر كفاءة، وبيئة نظيفة، وتسهيل الحياة اليومية.
الاستدامة البيئية: من خلال استخدام الموارد الطبيعية بكفاءة وتقليل التلوث.
التحول الرقمي: بتحويل الخدمات التقليدية إلى رقمية لتسريع المعاملات وتسهيلها.
التمكين المجتمعي: إشراك المواطنين في اتخاذ القرار من خلال أدوات المشاركة الرقمية.
تعزيز الاقتصاد: عبر جذب الاستثمارات في مجالات التقنية والابتكار، وخلق وظائف جديدة.
خاتمة
إن مفهوم المدينة الذكية يمثل خطوة متقدمة نحو مستقبل حضري أكثر استدامة وكفاءة وإنصافا. وبينما تظل التحديات قائمة، فإن التقدم التكنولوجي المستمر، إلى جانب التخطيط السليم والتعاون بين القطاعين العام والخاص، يمكن أن يحول هذا المفهوم من مجرد رؤية إلى واقع ملموس. إن تبنِّي هذا التوجه لا يعكس فقط تطورا تقنيا، بل أيضاً نضجاً في التفكير الحضري الذي يضع الإنسان في قلب التنمية.
سعيد الغماز-كاتب وباحث في الذكاء الاصطناعي
التعاليق (0)