عبدالله بن عيسى
تكشف واقعتان متتاليتان كيف يطغى صخبُ «العاجل» على أبجديات المهنة .. مقطعٌ منسوبٌ إلى تارودانت نُسجت حوله حكاية «عصابة تُرهب السائقين ليلًا»، ثم إشاعة «اعتقال» رئيس جهة سوس ماسة التي قفزت من حساباتٍ شخصية إلى عناوينٍ خبرية في ساعات قليلة.
في الحالتين، انطلقت السردية من منصات التواصل لا من غرف الأخبار، وتقدّم الضجيج على التحقق، فاهتزّت ثقة الجمهور وتراكمت خسائر المصداقية.
تبدأ الحكاية الأولى من فيديو قصير بلا سياق كافٍ. بدل التريّث والسؤال والتحقق، اندفع كثيرون إلى نشره كدليل على عصابة منظّمة تستهدف مستعملي الطريق. وبعد أن انتشر الخوف واشتعلت التعليقات، صدر التوضيح الأمني ليقلب الرواية رأسًا على عقب.
الأمر يتعلّق بخلاف شخصيّ بين سائق وفتاة كانت تربطه بها علاقة سابقة، تدخل على إثره ثلاثة أشخاص لمنعها من الصعود إلى السيارة، فتعرضت المركبة للرشق بالحجارة. حادثٌ محدود تحوّل بفعل الكتابة المتسرّعة إلى «قصّة رعب» عامة، لا لشيء إلا لأن الإثارة سبقت الوقائع.
وفي الواقعة الثانية، عبرت إشاعة «اعتقال» رئيس جهة سوس ماسة من فضاء الشائعات إلى صفحات تحمل صفة «إخبارية»، من دون نسبةٍ واضحة للمعلومات أو استعمالٍ لواجب التحفّظ المهني. لاحقًا، صدرت النّفيّات من مصادر قريبة، لكن أثر الإشاعة كان قد وقع.. سمعة أشخاص ومؤسسات وُضعت بلا مبرّر في مرمى الظنون، وقارئٌ خُدع بعنوانٍ صاخب ومتنٍ هشّ.
هكذا تُصنع «الأحداث» الزائفة.. معلومة منزوعة السياق، تضخيمٌ عاطفي، ثم تدويرٌ بلا فلاتر.
لا تُختزَل أزمةٌ كهذه في زلّة فردية هنا أو هناك؛ إنها خللٌ في ترتيب الأولويات داخل غرف الأخبار. حين يصبح «أن نكون الأوّل» أهم من «أن نكون الأصحّ»، تتحوّل الصحافة من حارسٍ للحقيقة إلى ناقلٍ للضجيج. والمفارقة أن السبق الذي يُفتَح له الطريق على حساب الدقّة ينتهي دائمًا إلى خسارةٍ مزدوجة.. جمهور يفقد ثقته، ومؤسسات إعلامية تستهلك رصيدها سريعًا أمام أول بيانٍ رسميّ أو توضيحٍ موثوق.
لا يحتاج الإصلاح إلى معجزات، بل إلى عادات مهنية بسيطة..مساءلة الفيديو قبل تبنّيه؛ الاتصال الفعلي بالجهات المعنية قبل الإفتاء في النوايا والاتهامات؛ توضيح أنّ «المعطيات أولية وقيد التحقق» عندما تفرض اللحظة نشرًا أوليًا؛ ثم التصحيح الصريح والمرئي عند تبيّن الخطأ، مع الحفاظ على أثر النسخة الأولى كدرسٍ معلن… تلك ليست كماليات تحريرية، بل خطوط أمانٍ أخلاقية تُبقي الصحفي على مسافةٍ واحدة من الحقيقة ومن الجمهور.
تُغري المنصّات بالسرعة، وتُكافئ الخوارزميات العنوان المدهش، لكن مهنة الصحافة لا تعيش بمنطق «اللايك» وحده، تعيش بالثقة. والثقة تُبنى ببطء… تقريرٌ محكم، ومسافةٌ نقدية من «الترند»، وقدرةٌ على قول «لا نعرف بعد» بدل اختراع يقينٍ زائف.
الدرس الذي يخرج من حادثتي تارودانت و«اعتقال» رئيس الجهة واضحٌ ومباشر… إذا لم نتأكد، لا ننشر.
وإن نشرنا قبل أن تكتمل الصورة، نصحّح عندما تتضح، لا نمرّ مرور الكرام.