وأنا أرتشف قهوتي هذا الصباح لحظة قراءتي لملف صحفي خاص حول سيناريو المفاوضات بين المغرب والجزائر والأسئلة المعلقة على ضفتي الحدود حتّى وقف أمامي منتشياً
( لقد ربحنا المعركة.. الآن يعرض ببهو البلدية المكتب الذي أعلن فوقه المرحوم الحسن الثاني انطلاق المسيرة الخضراء..)
تركته يواصل الحديث مهرولاً في اتجاه التحفة التاريخية بل مسرعاً الخطو تفادياً لأيّ ازدحام مرتقب خاصة والجميع في عطلة العيد الأخير للمسيرة الخضراء..
وجدت نفسي وحيداً وسط صمت ثقيل أمام مكتب خشبي جدّ متواضع.. وبخلفية قماش جدّ عادي بجانبه الصورة الحقيقية.. يتوسطها قائد المسيرة وراء اربع ميكروفونات على يساره المرحوم الأمير مولي عبد الله.. وفي الجهة الأخرى ولي العهد آنذاك سيدي محمد وأخيه الأمير مولي رشيد..
وأنا أنظر شارداً إلى السقف مستغرقا في التفكير بين ذاكرة تلك اللحظة التي فتح فيها قوس المسيرة وبين وجدان إغلاقه اليوم وترسيمه عيداً للوحدة الوطنية الترابية
بين الآية الكريمة التي فتح بها خطاب 6 نونبر 1975 ( وإذا عزمت فتوكل على الله)
وآية خطاب 31 أكتوبر 2025 ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)
عادت عيناي من جديد تتأمل هذا المكتب وأذتاي يصلها صوت من بعيد..
( غداً إن شاء الله ستنطلق المسيرة..) كان هذا الصوت كافياً ان استبعد العديد من الصوروالأفلام التي وثّقت إيقاع وحماس 350 ألف شخص كانوا يسيرون بحماس نحو تحرير الحدود.. واستحضر بالخصوص الضغوطات حد التهديد التي مارستها جزائر بومدين وإسبانيا فرانكو على المرحوم الحسن الثاني منذ إعلان تنظيم المسيرة 16 أكتوبر 1975 عبر الوسيط الأمريكي كيسنجير
تكشف تقارير وزارة الخارجية الأمريكية ومخابراتها بعد أن رفعت عليها السرية قبل سنتين.. تكشف عن رسائل بعث كيسنجر إلى الملك مطالباً إيّاه بالتراجع عن المسيرة مرفوقة بتهديدات الرئيس الجزائري والسلطات الإسبانية.
وبالحرف كما في الوثائق المعمّمة على النيت :
( إن الملك الحسن الثاني يلعب بالنار.. والمغرب ليس له أي مصلحة في أن يدخل في نزاع مع الثورة الجزائرية.. في حين أن الجزائريين لا يخشون من هذا الاحتمال. فنحن ثوار، واعتدنا على القتال. وأنا ليس لدي عرش أخسره مثل الحسن الثاني)
هكذا خاطب هواري بومدين كيسنجير
وهو ما اعاده بصيغة أخرى وزير خارجية إسبانيا السيد كورتينا :
(.. لقد تلقت قواتنا المسلحة الأوامر بصد أي محاولة للاجتياح
فالحسن الثاني يلعب بعرشه، ويريد أن يصرف رأيه العام عن مشاكله الداخلية.
إسبانيا ليس لديها أية نية لتدفع ثمن أخطائه لهذا أطلب منكم – مخاطبا كيسنجير- أن تبذلوا كل ما في استطاعتكم لتجنب العواقب المأساوية التي من المؤكد أنها ستترتب عن هذه المسيرة)
ماذا لو تراجع..!؟
سنكون محاصرين من كل الجوانب حتى المحيط الأطلسي..
ولأن الواقع اليوم غير ذلك فقد جعلني اجدد الرحمة على هذا القائد الهمام الذي توكّل على الله سبحانه وتعالى فبارك في الخطوة الأولى التي وطأت رمال الصحراء.. مرفوقة بالتكبير والتهليل.. سجوداً لهذا التوفيق الرباني الحميد..
من هذه القاعة بدأت الحكاية.. وبهذا المكتب الخشبي البسيط الشاهد الوحيد على هذه السرديّة بنفسها الملحمي الممتد طيلة نصف قرن.. متأسفاً عن غياب أيّ احتفال بهذه الرمزية وبكل حمولتها التاريخية.. مستغرباً لهذا الفقر في التفكير لدى دوائر القرار بهذه المدينة التي احتضنت يوماً شرف وامتياز إعلان بداية تحرير اقاليمنا الجنوبية..
ما هو دور مسؤولي الثقافة والتواصل بهذه المدينة إذا لم تنتبه لهذه الرمزية وتلتقط لحظتها التاريخية بهدف التواصل مع الأجيال القادمة وتجسير هذه الذاكرة الوطنية بين جيل المسيرة وجيل عيد الوحدة
متى سنتحرر من فكلرة شعورنا الوطني وحماسنا الشعبي نحو منصات هادفة تواصلية مع هذه الأجيال الرقمية الصاعدة..
متى..!؟
بهذا السؤال ودّعت هذا المكتب/التحفة الذي تمّ إطلاق سراحها بعد مجهود خاص لفريق استشاري بجماعة أكادير ومتابعة شخصية للسيد والي المدينة آملين – وبصدق- ان تتحرر أيضا من هذا البؤس المحاط به في الشكل كما في الإخراج.. وان يفكر في ما يناسب وضعه الإعتباري.. كجزء من ذاكرة الوطن.. وامتياز تشريف لمدينتنا .. أكادير
يوسف غريب كاتب صحفي


التعاليق (0)